ما يُشاع عن الغرب بسبب مواقفه العِدائية، بات يفوق الحصر. أحدها أنّه لم يعد منارةً للإنسانيّة، وإنّما رمزٌ للظلام. لِئلّا نبالغ أو نُعمّم، فالحضارة الغربية كثقافة وفكر وعِلم وأدب وفنون لم تصنعها الحكومات، بل صنَعها أفرادٌ كانوا المثال لتَوْق البشر إلى المعرفة وإثراء الحياة بالمعنى، وجَعْل الأرض مكاناً قابلاً للعيش، يستحقّ فيه الإنسان، ليس أن يتحمّل أعباء الحياة فقط، بل التمتّع فيها أيضاً.

على مدار العصور، لم تصنع الحكومات إلّا الحروب والمآسي في الصراع على السُّلطة، مع القليل من الرفاهية، على حساب قدرٍ هائل من عذابات البشر، من احتلال أراضي الآخرين إلى استعبادهم واستغلال ثرواتهم وحرمانهم منها. الحكومات الغربية صنعت الاستعمار، وحاولت اجتثاث تاريخ الشعوب بشتّى الوسائل، وما زالت تنظر إليهم كمجرّد شيء يمكن التخلّص منه، إذا لم يكونوا ذوي فائدة لها.

إذا كان الغرب الحضاري يلوم “إسرائيل”، فهو أشبه بالعاتب عليها، إذ تبدو عالِقة وكأنّما إلى الأبد في حرب بلا نهاية مع الفلسطينيّين. وإذا كانت أصواتهم تتعالى غاضبة، فللمطالبة بالحرص على عدم تشويه “السُّمعة الأخلاقيّة” للجيش الإسرائيلي، كأنّما هذا الجيش الذي كانت نشأته من عصابات إرهابية، وخاض أربع حروب في القرن الماضي مع جيرانه العرب بهدف احتلال المزيد من الأرض، لا يجوز له، بعدما حقّق ما طمح إليه، الإساءة إلى ذاته والتورُّط بحروب غير آمنة!

مَن صنع الحضارة في الغرب ليست الحكومات بل الشعوب

تدور النصائح السرّية التي تنهال على “إسرائيل”، حول أنّها ليست مُضطرّة إلى حُكم غزّة التي تضمّ مليونَي فلسطيني “مرضى في أجسادهم ورؤوسهم”، وتحمُّل كلفة أزمتهم الإنسانية. طالما هناك إجماعٌ واضحٌ بين مختلف ألوان الطّيف السياسي الإسرائيلي على استحالة التعايش معهم.

الحلّ الوحيد التخلّص منهم أو من أكبر عددٍ مُمكن. خاصّة ما زال مفهوم “الترانسفير” ساري المفعول، بطرد السكان الفلسطينيّين، وهو موضوع حاضر، ليس غائباً عن النقاش في “إسرائيل”، وقد تردّد مؤخّراً في أميركا نفسها بشكل “لفتةٍ إنسانية”، بمقال رأي في صحيفة “وول ستريت جورنال”، ولو أنّ اللذين كتباه سياسيّان إسرائيليان دعوا دول العالم إلى استقبال “عدد محدود من عائلات غزّة أبدت رغبتها في مغادرة القطاع”.

فـ”إسرائيل” التي دمّرت مساحات واسعة من غزّة، باتت غير صالحة للسكن، تفترض أن عدداً غير قليل من سكّان القطاع سيرغب، على الأرجح، في الرحيل إذا سنحت له الفرصة. هذه الحجّة صالحة للترحيل البريء؛ وما يُرتجى منها في الواقع أن تستهوي في نهاية المطاف عدداً أكبر من السكّان الذين دُمِّرَت حياتهم.

بينما آخرون، ليس لديهم ما يلزم من المكر، وإنّما الجرأة والوقاحة، بإيراد الحقائق دونما تجميل بعدما استنزفت الأكاذيب مراميهم، فلم يعُد لهم سوى استثمارها في ما يتعلّق بالتعامل مع الشعب الفلسطيني. فالدعاية حسب اجتهاداتهم، أثبتت أنَّ الرأي العام بات ينظر إلى “إسرائيل” على أنّها ضحيّة، فلم يعُد لدى الدول الكُبرى من عائق يجعلها تتردّد في تزويدها بالسلاح الأكثر تدميراً، وتدفّق المساعدات بالمليارات، وتشجيعها على مواصلة انتهاك القانون الدولي، وارتكاب جرائم حرب لا جدال فيها، تتضمّن العقاب الجماعي، وقتل الأطفال والنساء كخسائر جانبية.

والظروف سانحة لأسوأ الحلول على أنّها أفضلها، فأصبح وارداً التخلّص من فلسطينيِّي غزّة كمرحلة أُولى، على أن تبدو كمبادرةٍ إنسانيّة، بالاقتراح على مصر إقامة ممرٍّ إنسانيٍّ يسمح للفلسطينيّين باللجوء إلى سيناء، ما يتيح الفرصة لـ”إسرائيل” إغلاقَ الباب أمامهم فيما بعد، ومنعهم من العودة إلى القطاع. ولئلّا يُشتبه بأنّها عملية تهجيرٍ قسريٍّ، سارع المتحدّث في “البيت الأبيض” إلى نفي أيّ دعم لها، وإنمّا غضّ الطرف عن حصار المدنييّن وتعريضهم للقصف ما يدفعهم طوعاً إلى الرحيل.

تطهير عرقي مُمنهج يتوسّل مقولات وذرائع إنسانية

يُسفر هذا التطهير العِرقي الموارب عن وجهه، فلا يحتاج إلّا إلى ذرائع تبدو إنسانية، في حال توفّرها، فلن يُجادل أحدٌ فيها، وما الإعداد لها إلّا من باب الاحتياط، فهي كسياسة متوافرة من ناحية أنّها تهدف، حسب التعريف بها، إلى التخلُّص من مجموعة عِرقيّة أو دينيّة واحدة من السكّان المدنيّين، عن طريق العنف بوسائل مُستلهَمة من الإرهاب.

كما أنَّ الإبادة الجماعية ليست مجرّد القتل الجماعي المتعمّد للحياة البشرية فقط؛ وهو ما يتحقّق بكلّ جلاءٍ بإبادة عائلات بأكملها، وهو تكتيك اعتمده الجيش الإسرائيلي في حروبه السابقة. تتعلّق الإبادة، أيضاً، بالتدمير الثأري من ثقافة الشعب ولغته وتاريخه وما يجمعه من روابط مختلفة.

كما هو الحال في غزّة، وكان بالتدمير المتعمَّد للمواقع الثقافية والتاريخية، كوسيلة لمَحْو كلّ دليل على الحياة الفلسطينية، وتراثها الإنساني، بالعمل على تحويل القطاع المُحاصَر بمساجده وكنائسه القديمة ومواقعه الأثرية ومدارسه وجامعاته ومستشفياته وأحيائه… إلى أرض يباب، لا شيء سوى الخراب.

تدمير المواقع الثقافية وسيلة لمَحْو الحياة الفلسطينية

ومؤخّراً، أدانت “بلدية غزة”، عبر حسابها على فيسبوك، تدمير الجيش الإسرائيلي آلاف الكتب والوثائق التاريخية عَمْداً، وطالبت بتدخّل “اليونسكو” من أجل “حماية المراكز الثقافية وإدانة استهداف الاحتلال لهذه المرافق الإنسانية المَحميّة بموجب القانون الإنساني الدولي”. وخلال الهدنة، دمّرت قوّات الاحتلال الإسرائيلي “المكتبةَ العامة” التابعة لبلدية غزة، فقد عُثِر على المبنى في حالة خراب، بعدما كانت المكتبة قيد الاستخدام المُنتظم من قبل أفراد المجتمع، بما في ذلك تلاميذ المدارس وطلّاب الجامعات.

ليس الغرب حكوماته، ولا حفنة السياسيّين المتحكّمين فيه فقط، إنّه أيضاً هذه الأجيال الصاعدة التي تُحرّكها قيم العدالة والحرية، والمثقّفون أصحاب الضمير، لولاهم لكان العالَم مأوى الأشرار، وعالما في ظلامٍ مُطبق. وهذه الاحتجاجات الإنسانية في الشوارع والجامعات والمدارس، قد تكون بصيص نور في نهاية النفق، لكنها شعلة تضيء العالَم.