المتوقع خلال الفترة القادمة، استعادة حدث “الربيع العربي” أدبياً، ليس لأن الكتّاب سيبحثون عما يكتبون عنه، بل لأنهم لن يستطيعوا تجاوزه، فهو شكّل علامة فارقة على الرغم حالياً من غموض مآلاته، ما سيطبع عقودا قادمة بما حمله من آمال وأحلام، وما خلفه من نوائب وآلام، لن يمحوها التراكم الهائل من الأكاذيب. فما تركه وراءه من آثار مريرة، ستبقى طويلا، شهودها على الأرض؛ مقابر ومشوهون ومعاقون وأيتام، ووطن منهك، وربما منقسم على ذاته. وإذا كانت الدكتاتوريات ستحاول طمس علامات أدب الربيع الجحيمي، فسوف تهبّ رياحه من بلدان المهاجر والاغتراب.

تعتبر الرواية الجنس الأقوى والأشمل في توجيه الاتهام للدولة الشمولية. بالتالي، سيبرز نقاد يُلحّون على الفن وحده، ذريعة لحجب الرواية، بدعوى أنها مشبوهة سياسياً، مستثمرين السمعة السيئة للأيديولوجيا، ما يصم الأدب بالمباشرة والتبشير، مقتلا الرواية. أساءت الأيديولوجية إلى الفكر واحتلّت مكانة هي الأسوأ في تاريخ الفكر الإنساني، كوصفة للتحجر والبؤس والكوارث، ذهبت بأرواح ملايين البشر. وإذا كان لها أن تخترق الأدب ثانية، فلن يكون بعدها أدب ولا أدباء لزمن لا يمكن تقديره بالسنوات، وإنما بأعمار الدول الدكتاتورية. وسوف يكون للتنظير المتحامل نصيب كبير في الإحالة إليها، لدى التطرق إلى الحرية والعدالة والمساواة، وهكذا تحال الرواية إلى المعاش، ويتأدلج الأدب، ويتأدلج معه المظلومون، الأموات منهم والأحياء.

الروائيون ومعهم الشعراء والقصاصون الذين سيعطون أذنا صاغية لهذا النوع من النقد والنقاد، قد يشعرون بالحرج، إذا اضطروا للكتابة عن بلدانهم التي تفجَّر فيها الغضب الشعبي، كأنهم سيقترفون ذنبا لا يغتفر في حق الفن، فالكاتب لا يجوز أن يكتب إلا إذا كان سيبتدع شكلا فنياً لافتاً، أو أعجوبة فنية، ما يتعارض مع ربيع دموي، لم يكتف بالمجازر والتجويع والتركيع والترحيل من الوطن تحت القصف. بل وسوف يقفون صاغرين إزاء تساؤل: لماذا ضحى الناس بأرواحهم، أو ماتوا تحت التعذيب؟

ليست التضحية عملية ميكانيكية ولا تلقائية، والموت لا تصنعه الأقدار وحدها. فالرصاص والقنابل والكيماوي ليست مصادفات عمياء، لفقت لإنهاء حياة أعداد من البشر، تقدر بمئات الألوف، كأنما حلّت منيتهم، ووجب اختراع سبب لحصد أرواحهم بالجملة، وبهذا يرتاح أولئك الذين يريدون إنقاذ الأنظمة من جرائمها، ما يدفع الأدب إلى التخصص بإشكالات بعيدة عن القمع والقهر والسجون والمذابح.

تحيلنا معضلة الثورة إلى الوطن والحرية والعدالة وسيادة القانون… لا، ليست أشياء مجردة، ولا تهويمات، ولا إيديولوجيات مغلقة على تعريفات ومصطلحات، وإذا أصابتها الشبهات، فلأن النظام كان مجرماً. بينما ثورة العدالة والحرية، تحمل المعنى الجوهري لنضالات الإنسان؛ فالبشر ليسوا بشراً، إذا كانت كرامتهم منتقصة.

أما حجة الفن الغامضة التي جدّت حتى على الذين يتذرّعون بها، فالفن امتزاج بالحياة، لا ينصرف عنها، ولا يتنكر لها؛ الواقع يخلق الرواية، والفن يجسدها.