شهدت سوريا ولبنان في العصر الحديث هجرتين، الأولى في أواخر القرن التاسع عشر والثانية في أوائل القرن العشرين. كانت وجهتهما إلى الأميركتين ومصر. تميزت الهجرة الأولى باحتوائها على رجالات سيلعبون أدواراً ثقافية رائدة، سواء بالمشاركة في النهضة المصرية في الصحافة والفن، مثل جرجي زيدان ويعقوب صروف. وفي الأميركتين سينشأ أدب المهجر يضم الكثير من الأدباء كجبران خليل جبران وايليا أبو ماضي ونسيب عريضة. بينما الهجرة الثانية إبان السفربرلك والحرب العالمية الأولى، كانت تحت تأثير المجاعة الكبرى، وطغيان جمال باشا.

في هذا القرن، بوسعنا الحديث عن هجرتين من سوريا، الأولى كانت عقب مارس/آذار 2011 والخطاب المشهور الذي أعلن فيه “الرئيس” خلافاً عن أي رئيس في العالم عن شن الحرب على الشعب، لمجرد انطلاق مظاهرات سلمية. ما أطلق بعده حرباً ضد المتظاهرين، تحولت إلى حرب أهلية، ثم حرباً كانت مزيجاً من حرب داخلية وإقليمية وإرهابية شاركت بها دول كبرى. هاجر من جرائها مع الوقت نحو ثمانية ملايين سوري إلى الخارج، عدا النزوح في الداخل، ويقدر بنحو خمس ملايين. شكل كارثة حقيقية، لم يعبأ بها النظام، بل بدا وكأنه أزاح عبئاً عن عاتقه، عبّر عنه بالمجتمع المنسجم. مرة ثانية، ليس هناك رئيس في العالم، قد يقول هذا الكلام ولو كان يصبو إليه.

اليوم، ثمة هجرة ثانية بعدما أوشكت الحرب على الانتهاء، بانتصار كان بمساعدة الروس والإيرانيين، تحمل السوريون في الداخل طوال عشر سنوات حرباً قاسية، إضافة إلى وضع أمني، ضغط على أنفاسهم، عانوا فيه من اعتداءات الشبيحة وجنود الجيش العقائدي. اعتقدوا أن الحياة ستتحسن بعد الحرب، لكنها ساءت إلى حدود لا تحتمل حتى على الموالين، فقد نال منهم أسوة بالجميع. من دون تقديم النظام سوى النزر اليسير من تأمين الحاجات الضرورية مع الكثير من التعقيدات. تجلت في طوابير الغاز والخبز والوقود والسيارات، هكذا الحياة، وإلا فلتهاجروا.

لم يمنع النظام الهجرة، بل شجعها واستفاد منها برفع الرسوم على جوازات السفر. ارتفعت أرقامها بشكل سريع، وعلى سبيل المثال سجلت حركة الهجرة خلال شهر هذه الأرقام: دمشق 22 ألفاً، حلب 29 ألفاً، حمص 8560، طرطوس 5455، اللاذقية 1976، درعا 1890، القنيطرة 2211، السويداء 11022. هؤلاء غادروا مدنهم وبيوتهم إلى بلاد العالم، ليس لأن بلدهم خذلهم، بل لأن النظام أغلق في وجوههم سبل الحياة والعمل.

رحل نحو نصفهم إلى مصر، أغلبهم صناعيين وتجار ويد عاملة، سيجدون مجالا للعمل والاستثمار في سوق متعطشة إلى خبراتهم، مع ترحيب مصري. وما زالت الهجرة مستمرة، وهي في الواقع احتجاج على ضغوط أجهزة الدولة عليهم بالضرائب الفاحشة، وقيود فرضتها إجراءات الجمارك والمالية، وإتاوات “شببيحة الترفيق”، وحواجز ميليشيات الدفاع الوطني والفرقة الرابعة، وعوائق اقتصادية مفتعلة تحظر التعامل بغير الليرة السورية، ما يمنع استيراد المواد الأولية من الخارج. إضافة إلى إغلاق مكاتب الصرافة، وملاحقة تجار السوق السوداء، في ظل عجز المصرف المركزي عن تأمين بدائل.

أسباب تدهور أحوال الصناعة والتجارة، كان تحت تأثير حصار الأجهزة لهم بمراسيم وقوانين جائرة في وقت البلاد أحوج إليهم، فإذا لم يكن النظام في منتهى الحماقة، فهو يتعمد تهجيرهم، ليمسك بمقادير التجارة والصناعة، من خلال خطوط الفساد المنتشر والضارب في البلاد من أقصاها إلى أقصاها. ليست خافية ظواهر أثرياء الحرب وتجاره وتجاراته، فالفساد يتعمق تحت سيطرة المافيات التابعة لأجهزة المخابرات التي تنحو إلى القبض على اقتصاد البلد واستنزافه.

ومن الظواهر المقلقة بصورة مرعبة، من جراء تعطيل عجلة الاقتصاد، انحطاط القدرة الشرائية لليرة السورية، والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية، ما يهدد الموظفين بالانضمام إلى قائمة المعوزين، إضافة إلى استشراء ظاهرة الجوع والفقر. لم تشكل لدى المسؤولين سوى الشماتة، ألم تريدوا الحرية؟ هذه هي الحرية.

ليس غريباً توقع تصاعد الهجرة ولو إلى المجهول، فسورية باتت من أخطر مناطق العيش في العالم، بانعدام الأمان، فالاعتقالات والاغتيالات وحوادث القتل والنهب والتشليح والخطف، مستمرة لا تتوقف. بينما جميع المدن والقرى مهددة لدى أية شبهة بالحصار والتجويع والاجتياح.

لا يبدي النظام أية خطوة جدية لتسهيل الحياة في الداخل، بقدر ما يعمل جاهداً على إيجاد بيئة طاردة تدفع الناس إلى الهجرة، للتخلص من أعبائهم، أما الذين سيبقون في الداخل، فهم يعيشون من تحويلات أقاربهم في الخارج، بينما الذين لا مورد إضافي لهم، يعيشون تحت رحمة “البطاقة الذكية”، والتي تعمد القائمون عليها أن تكون، كما المأمول منها، بمنتهى الغباء.