يُعتقد أن لا علاقة بين الأدب والواقع، أو أنّها ضئيلة إلى حدّ لا يوثق به؛ فالأديب من فرط ما يُعمل الخيال يذهب به بعيدًا إلى عالم من اختلاقه، أو… لن نستطرد، يمكن القول إنّها علاقة معقّدة جدّاً، ولنقل بشكل مبسّط، إنّ الأدب هو رؤية الكاتب للواقع، أي أنّه الواقع من خلال عدسة الكاتب. وكي لا ننساق إلى مأزق نُضيّق فيه على الأدب والكاتب معاً، والدفاع عمّا لا مبرّر للدفاع عنه، نقول إنّ الكاتب ليس كاميرا فوتوغرافية. هذه المهمّة أخذتها على عاتقها الأفلام الوثائقية، وإلى حد ما الرواية الطبيعية.
لم يواجه الإبداع هذه المعضلة إلّا بعلاقة السوريالية بالواقع، فقد بدت صلتها بالأحلام أكثر من الواقع، مادتها الجنون، والشغف، والوساوس، والرعب، تنسجها الكتابة اللاواعية، والتشبّث بالحرية المطلقة. فالسورياليون أشهروا نواياهم، وكانت القضاء على كلّ منطق في الحياة والأدب.
الموقف المؤسّس للسوريالية، ناتج جزئياً عن رفض المجتمع والحضارة بكل قيمها، وإدانة الحياة القمعية التي تسجن الفرد داخل جدرانها وتعمل دونما هوادة على خنقه. حارب السورياليون الحضارة تحت شعار لا للعقل الواعي، والكتابة الامتثالية. ولم يخفوا كراهيتهم للمجتمع واحتقاره، ورفض الأحكام المسبقة والآراء الشائعة السائدة، مع الإعلان عن مهمّتهم العظيمة التي كرّسوا أنفسهم لها؛ إنجاز العمل التخريبي، والتدميري، والسلبي في تكنيس كلّ شيء، وهذا ما أضعف حركتهم وباتت بلا آفاق.
كيف تكون جادّاً والناس يتساقطون من أجل حرب لا معنى لها؟
كان من المفترض أن تختفي هذه الظاهرة اللاعقلانية في عالم عقلاني، لكن ما زال للسورياليين وجود عبارة عن عصابات أدبية تتناثر جماعات صغيرة، تطلق محاولات في الأدب والفن مع قدر كبير من الضجيج. ومهما يكن فهذه العصابات لا تشذ عن العصابة السوريالية الأولى في باريس بقيادة أندريه برتون وهو شاعر حقيقي، وناثر من طراز رفيع. تجمّع حوله لفيف ممّن سيصبحون كبار شعراء العصر؛ بول إيلوار، ولويس أراغون، وفيليب سوبول، وآخرون.
خرجت السوريالية مما خلّفته الحرب العالمية الأولى التي دامت أربع سنوات، وأدّت إلى تدمير أوروبا، ومصرع ملايين الشباب الفرنسيين والألمان في الخنادق. بالتالي لا يمكن فصل الحركة السوريالية عن الظروف التي شهدت نشأتها. كانت بالدرجة الأولى ردّة فعل على وحشية الحرب. كفرت بالعقل الذي لم يستطع أن يمنع حصولها، كما سخّفت المنطق الذي استحال عليه تفسير مجازر بلغت حدّ العبث واللامعقول، ما أوحى بموت حضارة الغرب بأسرها. فأخذوا يستهزئون بكلّ شيء ولا يحملونه على محمل الجد. كيف يمكن أن تكون جادّاً أو عاقلاً والناس تتساقط بالمئات والألوف من أجل حرب قذرة لا معنى لها أو مبرر؟ حرب تدور بين أمم كفرنسا وألمانيا وإنكلترا، إذا كان هذا ما يحصل في أوروبا موطن الحضارة، فالحرب أعلنت اندثارها، وموت الثقافة والعلم والتكنولوجيا.
ظهرت السوريالية، ومثلها الدادائية، بعد الإحساس بانسداد العملية الابداعية، وهدفت إلى إجراء خلخلة ليس في الموضوعات أو في الشكل، بل بالتحديد في الأسس التي تُبنى عليها، بحيث تطيح بها، وبلغ بها الشطط عدم الاعتراف بكل ما أُنجز، وطرح تساؤلات مارقة، ترتدّ عليها إلى حد إلغائها، فالتطرّف لا حدود له، لا يستثني شيئاً، يجد مجاله الأوسع في الأدب والفن، المساحة المثمرة للصراعات وللصرعات بأنواعها. وكان في تركيزها على الواقع، بأن تكون بديلاً عنه، قصر نظر فادح، فالواقع أصلب من أن يُصاب بأذى من انقلابات ولو كانت قاتلة. وسيتغلب المنطق لا الانفلات من الواقع.
الشائع عن السوريالية عدم علاقتها بالواقع، بل بالأحلام والكوابيس، هذا إذا افترضنا أنّها تأتينا من الخيال المحض، بينما هي ولادة الواقع، تقع تحت تأثيره، وتشكل انعكاساً له. إنّها بكلمة واحدة صناعة الحياة سواء في عتمة الليل أو تحت ضوء النهار. ما السوريالية إلّا سوريالية واقع لا يخضع للمنطق في أزمنة الانحطاط الإنساني. ومن التضليل القول إنّها ماتت. الحياة كاشفة وماكرة؛ السوريالية لا تموت من شدة علاقتها بالواقع.
-
المصدر :
- العربي الجديد