لم تنطلق الثورة الشعبية في سوريا وتتمدد، إلا بعدما أدرك الناس أنه لا يمكنهم الاستمرار في العيش على النحو الذي رزحوا تحته طوال أربعة عقود، خاصة أن شعوباً في المنطقة تعيش ظروفاً مشابهة، وإن كان أفضل، شهدت هبات شعبية، كان السوريون بالمقارنة معهم أولى بالانتفاض على أوضاعهم منهم. طالما الأجهزة الأمنية الحاكم الفعلي، تقاد من القصر الجمهوري، والعلاقة مع الشعب تدار من مكاتب وأقبية ودهاليز المخابرات، كل شيء دونما استثناء يخضع لها، وعلى السطح مظاهر ليست أكثر من شكليات ديماغوجية؛ مسيرات وهتافات تأييد، خطابات جماهيرية ولافتات وطنية، وانتخابات مزورة. أما الحب المتبادل بين القائد والشعب، فكان متبادلاً بالقوة… ومصطنعاً بفعل القبضة الفولاذية لرجال الظلام.
صنع الخوف الحياة السياسية والاجتماعية، ولم تنقص عن قمع السياسة والمجتمع. أما العلاقات مع الدول العربية والعالم، فلقاءات بروتوكولية تبدو بأحسن حال، ومحادثات دبلوماسية، كانت الأكثر بروزاً على السطح، بينما العلاقات الحقيقية تمر عبر قنوات مخابراتية بدعوى مكافحة الإرهاب، وإذا بدت الأوضاع في العالم مطمئنة أحياناً، فلأن المتورطين في الحروب، لا يريدون التورط أكثر، ما دام الضحايا صامتين.
بعد مضي نحو عشر سنوات على الثورة والحرب السورية، لم يعد العالم كما كان قبلها، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، واندلعت حرائق كثيرة فوق الجسر، واستُثمرت سوريا في محاولة إرساء إمبراطوريات، وإن كان استدعاؤها من التاريخ أسهل، كانت فاشلة، فالإمبراطوريات لا تُبنى على أنقاض دول وعواصم في هذا الزمن، ولا يعد الانتصار على الشعوب إنجازاً تاريخياً، وإن نجحوا بتهجير الملايين منها، المؤسف أن يتجول وزير الخارجية لافروف بين الدول متباهياً بفرض إرادة الكرملين في مجلس الأمن، مثلما فرض إرادته على نظام مجرم ومكروه.
ترى من وقف مع الشعب السوري في محنته؟ كان أكثر ما فعله الأمريكان إعطاء الملالي الضوء الأخضر للعربدة في الداخل السوري، جاءت ميليشياتهم المذهبية بذريعة حماية المراقد المقدسة من أحفاد الأمويين، فتعبدوا بالقرابين البشرية. هذا من محاسن النظام الذي فتح لهم أبواب سوريا على مصراعيها.
اهتم الأمريكان بإغراق الروس فيما دعي “المستنقع السوري” وعرقلة أي حل مهما يكن، ولم يكن لدى الروس حل أصلاً يرضي الأمريكان، إلا بالمساومة على ملفات أخرى، أحدها منع إيران من التمدد نحو الحدود الإسرائيلية. أما تركيا التي احتوت ملايين السورين النازحين، فكان مقابل إفلات يدها في إبعاد الأكراد عن حدودها.
ليس لدى هذه الدول ما يفعلونه من أجل سوريا سوى التوافق على تقاسمها، وإن كان بإعطاء النظام حصة ليس من الضروري تحديدها، فالنظام بالنسبة إليهم، لم يكن المشكلة ولا الحل، إنهم يتعكزون عليه، ما دام يبصم على وجود الروس والإيرانيين.
يعتقد النظام، مهما تغطرست الدول المحتلة، فالحل لديه، في النهاية سيخرجون قسراً أو طوعاً، الزمن إلى جانبه، مهارة ساسة النظام لا تخفي لعبة أتقنوها، إغراق مفاوضيهم في التفاصيل. خاصة بعدما بات للتفاصيل تفاصيل، تشهد عليها مفاوضات اللجنة الدستورية، وهي لا تزيد عن علك المعلوك.
ليس في قدرات النظام أي مبالغة، فمن مسيرته العتيدة، نلاحظ السوية التي يتحرك بها، دائماً إلى الأمام، ينتزع الموقع بعد الموقع، يعمل دونما كلل أو ملل، يكرس توجهاته، طالما الآلة العسكرية الروسية تسانده. طوال عقود كان العمل جارياً بدأب على تحويل سوريا بالكامل إلى مزرعة، كل ما يجنى من نفط وغاز وفوسفات وسياحة، وتجارات مشروعة وغير مشروعة من آثار ومخدرات … تصب في خزائن سرية، تقتطع منها عمولات عبارة عن أتعاب العائلة الرئاسية، تودع في بنوك آمنة، ما استدعى تحويل الجمهورية إلى جملوكية، ومنها إلى سوريا الأسد، ذات نظام حكم وراثي، ضمن عائلة واحدة، تملك سوريا أرضاً وشعباً. ما استدعى أيضاً في الفترة الأخيرة تغييرا لئلا يحدث تشتت في الثروة، وتصبح سوريا تحت حكم عائلتين، فاستبعدت عائلة، ومنعت من النهب لحسابها، النهب فقط لحساب العائلة الحاكمة لا غير، أما تجار السلام والحرب الجدد، فليسوا إلا وكلاء عنها، يستثمرون لحسابها، ما فضل عن الإيرانيين والروس. وإذا كانت إيران تواجه صعوبات في التمدد، فلا يعني الانتقاص من حصتها، أو التنازل عنها، رغم التكلفة الكبيرة، لكن الغنيمة تستحق، الروس أكثر اطمئناناً لحصصهم.
ما يعزز توجهات النظام في الداخل السوري، مجتمعات متعبة لم تخرج من الحرب بعد، تحصد نتائجه المعيشية الكارثية؛ غلاء وجوع، تضييق في الخبز والكهرباء والوقود، عدم ثبات الليرة، مهانة طوابير الانتظار الخلاصة، الناس منشغلون بتأمين الحاجات الضرورية في محاولة البقاء على قيد الحياة… أي لا خطر من الشعب.
ما المطروح اليوم؟ إذا كان ثمة حل فهو مستحيل، سواء في جنيف أو في أستانا، أو في أي مكان في العالم، المكان ليس مهماً، النظام لم يخف نواياه، ترتيب أوضاعه على المدى البعيد، ستعود سوريا إلى ما كانت عليه. أما وقد أصبح هناك ما يدعى بـ”سوريو الخارج”، فلن يدخلوا إلى بلادهم إلا حسب شروط التجانس المبتكرة تحت رقابة الأجهزة الأمنية.
هذه هي سوريا الممزقة… ترزح تحت سلطة أربعة احتلالات.
هذه هي سوريا المنهوبة… تنهبها أربع دول، معها وعلى رأسها النظام.