منذ نشأتها، واجهت الرواية كما المسرح الاتهامات بتهديد سلامة المجتمع. شن المتزمّتون من دعاة الأخلاق، والمتدينون المتشدّدون حملات كانت في تجدّد دائم، ما أدى إلى ابتداع أجهزة الرقابة، التي كادت ألا تخلو منها دولة في العالم، لتمارس المنع حتى اليوم، لا سيما في معارض الكتب، الصرح الذي تتباهى فيه الدول بثقافتها، فإذا بها تكشف عن عداوتها للثقافة.
صودرت الرواية بحجج أخلاقية ودينية، كانت في جوهرها سياسية، وكأن بمقدور الرواية زعزعة أسس المجتمع والنظام والدولة، ما أسبغ عليها قدرات لا تملكها، لمجرّد أن الفساد الضارب على جميع المستويات لا يطيق انكشافاً أو تعرية.
رأى أعمدة المجتمع في قراءتها إغواء للشباب من الجنسين، لا سيما الإناث، كانت تشغلهنّ عن أداء واجباتهن في العالم الحقيقي تحت تأثير عوالم غير حقيقية. فقيل في التعريض بها: تعس هو الرجل الذي تحبّ زوجته قراءة الروايات ففي تخيلاتها الحمقاء، قد تحب، أو تزل وترتكب الفاحشة، وربما تتزوّج وتحبل، ولا يستبعد أن يموت وتترمل.. ترى ماذا عن حماسها لدخول المطبخ وترتيب الفراش وكنس الغرف، ألن يكون فاتراً أشدّ الفتور؟
” تذرّع أعداؤها بحماية المجتمع من أخطارها”
تركز التحذير على انتهاك الرواية لرباط الزوجية المقدّس، حتى إن التنويري العظيم إيمانويل كانط في كتابه “نقد ملكة الحكم”، انتقدها واتهمها بأنها تضعف الذاكرة وتدمّر الشخصية، ما دام القرّاء يتعاطفون مع شخصيات الرواية، إن لم يكن تقمّصها أيضاً.
تذرّع أعداؤها بحماية المجتمع من أخطارها، فالروايات تشجع على الهروب من الواقع، والتعلّق بأذيال الخيال الرجيم الجانح إلى الموبقات، ولم يعد من الغرابة أن تُقرأ خلسة، مع الشعور بالذنب. فالروايات تحفل بالأزواج المخدوعين، والعشاق الأوغاد، والنساء الخائنات، ماذا تكون إيما بوفاري وآنا كارنينا، والمجرم راسكولينكوف، والقاتل جوليان سوريل، أو ذلك المجنون دون كيشوت مصارع الطواحين الهوائية؟ ثم إن الوقاحة وصلت بالروائيين إلى التشهير بالسلطات القائمة، وانتهاك خصوصياتها بحجة فضح الفساد المستشري فيها، في حين لا يجوز المساس بها.
تركّزت المخاوف على تأثير سلطان الرواية في العقول، ولو عن طريق الخيال. هذه المخاوف لا ينبغي الاستخفاف بها، لكن الكاتب لا يستمد سلطته منها، وإذا كان يؤكد على شيء، فعلى محاولاته في الإسهام بصياغة وعي الإنسانية، فهي في طور التشكل الدائم. إن المعمل الروائي الأشبه بـ”معمل الحدادة” حسب تعبير جيمس جويس، قادر على إعادة تقويم وعي البشر بمفاتيح الحياة الكبرى؛ الحب، الحرية، الدين، الاخلاق، الموت.
تطرح الرواية رؤى وخيارات… قد لا ندرك مدى تأثيرها، إذ تحفر عميقاً في الخفاء، وتنير العقول على عالم مفتوح على المجهول، ومصير غامض، ونوازع مبهمة، وعالم من فساد معمّم. عندئذ تهبنا الرواية من الأمل، ما لا يهبنا إياه اليأس، ففي التعرّف على قدراتنا، محاولة لتغيير هذا العالم المجنون، ففي عمانا عماه، وفي بصرنا بصره.
-
المصدر :
- العربي الجديد