هذا المقال في وارد التعليق على مقالي الأخير في “العربي الجديد”، المعنون بـ”الرواية السورية والجوائز”، والذي لم يحظ بالمناقشة إلّا من كاتبة لم تكن موافقة على ما كتبته، تعلّلَت بحاجة الكاتب إلى المال، مهما كانت طبيعة الجائزة.
إنّه قول يلامس الحقيقة، فالجائزة تعويضٌ حقّ عمّا يبذله الكاتب الذي يكرّس موهبته ووقته للأدب، ما يدلّنا إلى أنّ الكتّاب يأكلون ويشربون ويتعبون ولدى أغلبهم أُسر يُعيلونها، ويحقّ لهم أن يروا نتيجة جهدهم، ولا غرابة في أن يكافأوا عليه. في مقالي لم أكن معترضاً، بل كانت حجّتي ألّا تُتَّخذ الجوائز هذه الذريعة للتحكّم بالكاتب.
لم أعرف تماماً سبب عدم الإقبال على المقال، وإذا كان قد قُرِئ، لكن صداه لم يظهر، وأعزوه إلى سطوة الجوائز؛ فقد كانت لدى بعض الكتّاب الذين أُعجبوا به مخاوف حتى من الإشارة إلى أنّهم اطّلعوا عليه، ولم ينتقدوه. كانت خشيتهم، وهو أمر لا يُمكن القطع فيه، أن تكون لدى الجهات المانحة قوائم سوداء، تُدرج فيها أسماء الكتّاب الأشرار ناكري الجميل ممّن تجرّأوا على انتقاد ما تُنعم عليهم به، من باب أنّ المؤسّسات الثقافية تتصرّف على شاكلة الدول في المنع والتضييق، وهو أمر نظنّ أنه مستبعَد، يمكن أن يُعزى إلى أن الروائيّين يتمتّعون بخيال واسع.
ليس الاتهام بوضع فيتو على روايات السوريّين من فراغ
لئلّا يعتقد بعض الكتّاب والنقّاد أنّني أتمتّع بالجرأة، ففي الواقع ليست لديّ هذه الخصلة، فأنا امتنعتُ عن التقدّم لأيّ جائزة منذ نحو عشر سنوات، لأسباب وجيهة وجوهرية تدور حول الفساد الثقافي، الذي وجد حاضنةً في الفساد المستشري في حياتنا، وهو أمرٌ بات طبيعياً، إذ لا يمكن للفساد أن يطاول جوهر السياسة والمجتمع ولا يطاول الثقافة، وكأنّ هؤلاء جاؤوا بهؤلاء. أمّا التفاصيل فأنا في غنىً عن ذكرها، يستطيع الكثيرون غيري التكلّم حولها بطلاقة، بحكم أنّهم الأقرب إلى هذه الأوساط، وإيراد وقائع عنها، باتت معروفة عن هؤلاء الذين من المفترض أن يتمتّعوا بمنسوب مرتفع من المسؤولية الأخلاقية تجاه الثقافة.
أي أنّ انتقادي للجوائز لا يشكّل ضغطاً عليّ، ولا يؤثّر فيّ، ولا في رواياتي. نحن الكتّاب اللاجئين المبعثرين في بلدان العالَم، لا ضير علينا خارج بلدنا. وما نكتبه من مقالات رأي إنّما لتبيان حال لا ينبغي السكوت عنها، عسى في إصلاحها إصلاح أحوال المثقّفين، وليس من المحال.
إنّ الآمال التي يعقدها الكُتّاب على الفوز بالجائزة مشروعة من ناحية المال والشهرة، والكلام حولها ليس من العبث، والاتهام بوضع فيتو منذ عشر سنوات على روايات السوريّين وغيرهم، ليس من فراغ. والغريب أنّ الجوائز بدأت بالتطبيع مع النظام السوري منذ ذلك الوقت، أي سبقت حكومات البلدان العربية بما لا يقلّ عن 12 عاماً، والأمر لا يحتاج إلى ذكاء. فكما أنّ للنظام السوري شبكاته، فللمثقّفين الموالين له، علناً أو بالخفاء، شبكاتهم الثقافية المستقرّة والمشرّشة خارج سورية، ترسّخت بالتدريج طوال ما يزيد عن نصف قرن، سيطروا خلالها على تصدير الثقافة السورية للبلاد العربية، فهيمَن وجودهم على الندوات والمجلّات ومعارض الكتب…
وهذا الأمر لا يخصّ السوريّين وحدهم، بل يخصّ الثقافة العربية أيضاً، فالمثقّفون العرب عاشوا مرارة سقوط محاولاتهم في التغيير، فالسوريون ليسوا وحدهم من ابتُلوا بنظام كهذا يسجن ويقتل. ولقد كان تحرُّك الموالين للأنظمة الدكتاتورية، طوال الربيع العربي، في مناخ آمن، كانوا يسبحون في مياه يعرفونها، طبعاً ليس بالكامل، وهذا من حسن حظّ الأدب.
لو كانت سطوة الجوائز نابعةً من الأدب فعلاً لقدّمت مأثرة تُشكِّل مفصلاً، يصحّ أن يكون منعطفاً في الثقافة العربية؛ إذ عادةً ما تنحو الجوائز في العالَم إلى إحداث حراك في الأدب بتشجيع الكاتب على محاولات تتعمّد ترسيخ فسحة من الحرية قابلة للتوسُّع على الدوام. ولا بأس في القول إنّ في إدارة الجوائز باعتبارها جهة رقابية، لن نظفر بروايات ولا روائيّين.
امتنعتُ عن التقدّم لأيّ جائزة منذ نحو عشر سنوات، لأسباب وجيهة
ما الخطر الذي تشكّله هذه المؤسَّسات على الروائي مثلاً؟ من المعروف أنّ كل بلد عربي يُمارس الرقابة على حدة، ويشمل المنع السياسة، والدين، والجنس. المحظورات المتعارَف عليها، لكن لكلّ بلد تقديراته وتفسيراته، فما يُمنع في بلد، يُسمَح في آخر. كذلك بخصوص الجوائز، المبدأ نفسه، ومختلف على تفسيره من جائزة لأُخرى.
أخيراً هناك الروائي الذي لديه رقابته الذاتية، ويحاول التغلّب عليها، دونما نجاحات كبيرة، فهو يعيش صراعات مع نفسه. بالتالي، تُضاف إليها رقابة بلده والبلدان الأُخرى، وأيضاً رقابات الجوائز، يجب أن يعمل حساباً لها. تُرى ماذا يكون حال الرواية إزاء هذه الرقابات المتنوّعة؟ كم مرّةً سينالها التعقيم في ذهن الكاتب قبل أن يكتبها؟ هذا إذا أراد لروايته اجتياز حدود ما يزيد عن عشرين دولة، أو الاشتراك في الجوائز. مع الوقت ستترسّخ الممنوعات داخل الكاتب، ولنتصوَّر عندئذ حال هذه الرواية النظيفة.
إنّ في مَنْح الكاتب هامشاً من الحرية ما يتعارض مع الرقابة، وقد لا يستدعي الثمن إزهاق أرواح، ولا السجن، مجرَّد المنع فقط، هذا إذا كنّا متفائلين، لكن على المدى الطويل، نتائجها التماوت من الفاقة.
فليكن على الكتّاب أن يعرفوا أن لا حرية في هذا العالم.
-
المصدر :
- العربي الجديد