يرحل حاتم علي مبكراً جداً. إذا كان هناك أوانٌ مرصود لكلٍّ حسب عمله، فقد غادرنا قبل هذا الأوان بكثير، لم يُنهه بعد، لديه الكثير ليقوله، هذا الرجل ما زال رأسه يمتلئ بالمشاريع، ترك عالمنا إلى عالم أرحب، سيكون أرحم من رؤية بلده طوال عشرة أعوام، يحترق ويُدّمر ويُنهب ويتحوّل إلى ركام.
يخلّف حاتم وراءه مثالاً استثنائياً، وجودُه صادف زمناً متقاعِساً، لم يجارِه، كان يسير على إيقاع زمن آخر، لا يشبه الزمن الدكتاتوري، كان على تضادّ معه، لا جامعَ بينهما. في المنفى، كان أملَ سورية في استعادة ثقافة بديلة، ناقدة وجادة.
لن نحار ونتساءل أين يقف حاتم، هل هو ضد النظام، أم معه؟ هل كان رمادياً؟ هذا اللون السياسي، ابتدعه السوريون تحت وطأة انقساماتهم، وتردُّدِ مواقفهم. لم يكن حاتم ضدّ بلده ليقف مع النظام، كان مع سورية حرّة موحّدة، لم يمتدح النظام، أو يمالئه، لم يبرّر له، أو يتخفّ وراء تكهّنات ومسمّيات. كان في عدم انحيازه له، انحيازٌ لشعبه.
وُجد حاتم في زمن فاسد طاردٍ للمواهب والأعمال الجيدة
رحيله المفاجئ كان مأساوياً، فقد اختطف. يبدو أن علينا تحمّل المصائب بأنواعها، هذه المصيبة تضجّ بالدراما، ليست ملوّنة، دراما بالأسود والأبيض. فقدناه في عزّ حاجتنا إليه، كنا نعوّل عليه في الإسهام باستعادة ثورة كانت الأجمل والأعظم. لكنّ تجربته تُعلِّم، أنه مهما كانت مصائب السوريين بوسعهم النهوض وفعل الكثير في وطنهم ومهاجرهم ومنافيهم، ما دامت أنظارهم معلّقة على سورية؛ هذا درس حاتم علي.
حياته القصيرة، اتّسعت للكثير، ومثلما انتهت مبكّراً، بدأها مبكّراً، بكتابة القصة القصيرة، أصدر مجموعتين: “ما حدث وما لم يحدث”، و”موت مدرّس التاريخ العجوز”. ذهب بعدها إلى فضاءات محاذية، فكان ممثّلاً وكاتب سيناريو ومخرجاً درامياً ومسرحياً وسينمائياً ومنتجاً… ليس بهذا الترتيب، كان يتنقل بينها، كانت كلّها على علاقة بالفنّ، عالمِه الأوسع، كما يفهمه، لا ينفصل فيه العمل السينمائي والتلفزيوني عن الأدب والموسيقا والفن التشكيلي، صِلاته بها كانت وثيقة، جمع بينها في تلافيف أعماله الدرامية. كان فناناً من قمة رأسه إلى أطراف أصابعه. هذا الإنتاج الغزير لم يأت من فراغ، حقّق من خلاله عالماً ثرياً، كان مشغولاً بحِرفية، من فرط عنايته بالتفاصيل.
أكتب عن حاتم متأخراً، لا الوقت ولا الظروف سمحت لي لأقول له، لقد نجحتَ وفعلت شيئاً جيداً، نحن مدينون لك. كادت أن تكون بيننا علاقة عمل أخفقت مرتين، ففي بداية رحلته ككاتب، رغب في كتابة سيناريو تلفزيوني لرواية “موزاييك”، ثم بعد سنين طويلة في إحدى ذروات تألقه كمخرج، تجددت الفكرة، لكن في إخراجه سينمائياً. كلاهما لم يتحققا. كان بودّي وربّما كان بودّه. لا آسف عليهما، آسف على أنني لم أتعرف إليه عن قرب، وإن لم أغفل عن التعرف إليه عن بعد، إنسان متواضع، بلا ادّعاء ولا دعاية، ولا أكاذيب، ولا تبجّح، ولا بهرجة، بوسعي قول الكثير عنه، ولا أعدمه حقه. كرمى لإخلاصه لعمله، وما قدمه من جهد، وما نزفه من عرق. كانت وفاته صدمةً للملايين، تعيدنا إلى تراجيديا البطل على مسرح الحياة، وهبَ حياته كلّها لهذا الفن، وكان أحد شهدائه.
كرمى لإخلاصه لعمله، وما قدمه من جهد، وما نزفه من عرق
في هذه الضائقة السورية التي بلغت نصف قرن، ليس من السهل البقاء حراً، ولا حتّى على قيد الحياة، فكيف في تشييد هذا الصرح من الأعمال المتميّزة، في ظروف قاسية ومؤلمة، وكانت تعويضاً نبيلاً. مهما يكن، يغادر حاتم دنيانا، وقد أشرعت سورية أبوابها على زمنه، زمن سيمتدّ طويلاً، ويعيش طويلاً، زاداً ملهماً لرفاق الأيام الصعبة وللأجيال القادمة.
وُجد حاتم في زمن فاسد طاردٍ للمواهب والأعمال الجيدة، زمن العملة الزائفة الطاردة للعملة الجيدة. تلك إحدى المرات النادرة التي طردَ فيها الفنُّ الجيد الفنَّ الزائف.
-
المصدر :
- العربي الجديد