لا عجب أن حصلنا على لوحة غرائبية للأزمة السورية، فالنزاع لم يعد سورياً خالصاً، وإن نال منه السوريون النصيب الأقسى، قتل الحياة ودمار الوطن. الجانب الآخر من اللوحة، مهما حاول الكبار أو الذين في مصاف الكبار التذرّع بإيجاد حلول للمأزق السوري، فتصريحاتهم لا تخفي الحقائق ولا الأكاذيب، فهم لم يتفقوا على الحلّ السياسي ولا العسكري ولا السلمي، حتى الحلّ السياسي الذي أخذته روسيا على عاتقها، بالاتفاق مع الأمريكان، اضطرت لإجبار السوريين عليه، إلى دعمه بخبرات مجازرها في الشيشان، وحمولات الأسلحة والذخائر المتدفّقة بالطائرات والبواخر إلى سورية.

إسهام المجتمع الدولي في هذه الأزمة المتفجّرة منذ ثلاث سنوات، لا يزيد عن إطلاق التصريحات الغاضبة بين فترة وأخرى، خفتت بعد أن لم يعد هناك خطوط حمر. الغرب لا يسمح بفعل مناف للقانون الدولي إلا وينتقده رسمياً وفي جميع المحافل وعلى كافة الأصعدة، الأمم المتحدة، البيت الأبيض، وزارة الخارجية، البنتاغون، الإليزيه، الداوننغ ستريت، الكي دورسيه، والكرملين… جوقة واحدة في استنكار ما يجري في سورية من قصف ومذابح وتهجير.

جرى الاتفاق على أمر واحد، استمرار النزاع بالمحافظة على إيقاع منخفض، يمكن ضمانه لسنوات على منوال رتيب، من خلال ضبط تدفق الأسلحة وتحديد أنواعها، مع معدلات معقولة من قتلى أهالي الأرض المضيفة، وتوازن الأطراف في معمعة التقدم والتراجع. ما يحقق الجدوى على المدى البعيد من تقاتل جماعات القاعدة مع حزب الله والميليشيات الشيعية، مع بعضهم وضد بعضهم، ليختلط الحابل بالنابل، في حرب إفناء طويلة. فالجماعات المتأسلمة وجدت في سورية أرض جهاد، طالما بحثت عنها لإقامة أنموذج لدولتهم، دولة الخلافة العادلة، منها ينطلقون إلى بلدان الجوار، ومن ثم إلى العالم. والوسيلة واحدة، الشهادة تحت راية الله الواحد الأحد. ليس هذا من مهازل التقوى. العمليات الاستشهادية، الموسومة بالانتحارية، خير دليل على الإيمان المميت.

دول الجوار أسهمت بالحدود المفتوحة، لتمرير السلاح والعتاد والرجال، فمن العراق ولبنان تأتي السيارات محمّلة بالمسلحين، الأغلبية العظمى من ذوي الحمية الدينية المذهبية للدفاع عن المراقد المقدسة، ضد الأحياء الأنجاس. الطرف الآخر تأتيه النجدات من بلاد العالم، ملتحون قادمون من أوروبا والسعودية والشيشان وغيرها من بلدان المعمورة، قدموا لنصرة الدين الحنيف، لا يتوهون عن الطريق، لديهم دليل الوصول إلى الشام شريف، يكفي أن يتبع السهم حتى يدخل الجبهة الأقرب إلى الحدود، التسهيلات متوافرة، في اليوم التالي بوسعه المشاركة في المعارك، فهي على قدم وساق، فالأعداء كثر، والسلاح أكثر، فقط اضغط على الزناد، غير أن العملية الاستشهادية، ثوابها أكبر. وما الدنيا الا متاع الغرور.

سورية في زماننا هذا غير المحسوب حسابه، أرض صالحة لتصفية الحسابات بين المذاهب، إرث ما يزيد على ألف عام، الزمن سانح لوراثته وتوريثه، ترى هل في القضاء على سنّة سورية، نهاية للنزاع على الخلافة، واستتباب الزمان للشيعة؟ هذا إذا افترضنا أن الحرب استمرّت طبقاً للشعارات الطائفية المحرّضة على الانتقام لما قام به الأمويون أجداد السوريين، لكن ما الضمانة لكون هؤلاء الأحفاد، من سلالة الأجداد؟

اللوحة بمجملها وتفاصيلها غرائبية، لولا القتل لكانت طريفة.

الحرب في حالتها الحاضرة، أكثر من مجنونة، وإجرامية، وقذرة. وإن كانت تدلّ إلى انحطاط، فلأن الأطراف يعرفون ما تخلّفه يومياً من مآس فاجعة، هي بمنظورهم مغتفرة، بل ويثابون عليها، وكلما كانت أكثر مأساوية، يضاعف لهم الثواب. ما يفتقد إليه، أبطال الوغى، أصحاب الانتصارات المتوالية، من الصعب تعويضه، الفتاوى تقيّده، وهذا ليس زمان مراجعات، بعدما سبقه زمان الثأر .
أما الشهود المتوارون في العتمة، فقد أكسبوا الإنسانية سمعة كانت الأكثر سوءاً منذ عقود.