قضى رياض الترك حياته مناضلاً ضد الدكتاتورية، داخل سورية وخارجها، تصدّى لها تحت الأرض وفوق الأرض، طُورد من مدينة لمدينة، وسُجن في أكثر من سجن ومعتقل. أخطأ وأصاب، لم يرتكب خطأً، بل سلسلة من الأخطاء، كانت تحتمل الصواب، فالسياسة الحقّة ليست في عُهدة النجاح السهل، ولم يكن مطواعاً للتنازلات، مهما كان حجم الإخفاقات، واستطاع بكل نزاهة أن يقدّم مثالاً نضالياً مشرّفاً، بل أكثر من مثال جدير بالمجد كمناضل سياسي في هذا العصر، كان فيه النظام في سورية نابذاً للحرية والعدالة والقانون.
لم يكن في قضاء رياض الترك، نحو ربع قرن في السجون والمعتقلات السورية، امتياز على صلابته وقوة تأثيره فقط، كان الثمن الباهظ للنضال ضد دكتاتورية رثة لا تنشد سوى البقاء بمختلف الوسائل. وإذا كان الحقد الأسدي قد أصابه أكثر من غيره، فأمضى ثمانية عشر عاماً في زنزانة منفردة مسجوناً لحساب حافظ الأسد شخصياً، لن يخرج منه إلا إلى القبر، أي سجين إلى الأبد، لكنه عندما خرج لم يقدم أي تنازل، وعاد أقوى ممّا دخل.
هل يجوز الحديث عن كتابة رواية بطلها رياض الترك، كشخصية تراجيدية كرّست حياتها كلها ضد الطغيان، ولم تفلح في هزيمته؟ تستحقّ تحولات الترك الدرامية التي لم تكن مجانية النظر إليها من خلالها، فالرجل منذ ظهوره على سطح الأحداث، برز كنزيل شيوعي في سجن المزة في عهد الوحدة. بعد ما يزيد عن عقد قاد انشقاقاً في الحزب الشيوعي، تحت تأثير تحول فكري، اتخذ مساراً سياسياً ذا نزوع قومي عربي، أدّى إلى انفصاله عن المركزية الشيوعية للاتحاد السوفيتي البلد الأم. كما انفتح على الإخوان المسلمين وتحالف معهم، وسُجن إثر مجزرة حماة. كان أحد وجوه “ربيع دمشق”، ما أدّى لعودته إلى السجن. انحاز بعد إطلاق سراحه إلى الربيع العربي، من واقع إيمانه بالشباب الذين نادوا بالحرية والكرامة.
كان شيوعياً حقيقياً، ناضل من أجل مجتمع شيوعي، وكان قومياً عربياً، بارتداده إلى العروبة والوحدة، وعندما تخفّف من الشيوعية، تمحورت أفكاره حول الديمقراطية كفكرة لها الأولوية في نشاطه السياسي، إلى حد غيّر اسم حزبه إلى “حزب الشعب الديمقراطي في سوريا”، وترسّخت مع نشوب الثورة. كان ابن عصره المتقلّب، جاراه بالمشاركة في تحوّلاته.
من هذا الجانب، كانت شخصية رياض الترك محيرة للكثيرين، فانتقالاته كانت غالباً جذرية، ومخالفة لما سبقها، فانتُقد من الذين خالفوه الرأي، كذلك من خصومه، وإذا كانوا قد كفّوا عنه، بعدما قارب التسعين، وكرّموه عقب وفاته، فقد كان احتراماً لهذا الرجل الذي لم يتراجع أبداً، عمّا التزم به، وهو إسقاط الدكتاتورية، وكان واثقاً ممّا آمن به، حتى إنه كان يعتقد بأنه سيعود إلى سورية، ويُدفَن في حمص مسقط رأسه، خذله مبكراً الصديق الروسي القديم، وثورة أكتوبر التي كاد تحت تأثيرها أن يقضي نحبه بالتعذيب في سجن المزة أيام كان شيوعياً، كذلك الثورة الإيرانية التي بشّرت بالخير عندما اندلعت، وأنتج ملاليها شراً على العرب، وخاصة السوريين.
تشهد مواقف الترك الشجاعة، بأنها كانت تعبيراً عن أكثر من شخصه بالذات، وكان الناطق بلسان السوريين، بالتصريح عمّا يجيش في داخلهم، والإفصاح عمّا يضمرونه، عند وفاة حافظ الأسد، في الوقت الذي كان النظام يلهج بالرئيس الخالد الذي لا يموت، خرج الترك، وقال: “مات الدكتاتور”، وسمعها العالم كله. ولن يطول الوقت ليعبر عن معارضته للوريث قائلاً: لن انتخب بشار الأسد. وتوقّع الثورة السورية في مقال له قبل وقوعها عام ٢٠١١ كان عنوانه: “لن تبقى سورية مملكة الصمت”.
نستطيع أن نُحيل حياته إلى ما يمت بصلة، إلى التراجيديا الإغريقية. لعب القدر الدور القاسي في التغلب على البطل التراجيدي. في زماننا، شكّلت الدول الكبرى أمريكا وروسيا التي ساعدت على بقاء دكتاتورية الأسد، الذي راوح بين قطبين، واستمد النظام منهما الحياة، ما شكّل جبروت القدر الذي تغلّب على بطلنا السوري. لم يستطع رياض الترك، على الرغم من عناده التغلّب عليه، لكنه مثّل إرادة السوريين في مقارعته للحتمية التي مثّلها النظام الشمولي، صحيح أن الدكتاتورية لم تتحطم، لكن الترك لم يتحطم أيضاً. صمد حتى آخر لحظة من حياته، كانت لديه القناعة المطلقة بسقوط الدكتاتور.
كان رياض الترك محكوماً بمصير ليس هناك غيره، وإن كان متناقضاً، الهزيمة أو النصر، فانتصر وإن مات مهزوماً، وهُزم وإن مات منتصراً. وما يمنحه صفة البطل التراجيدي أنه عمل على تدمير ما يعادل قوة خارقة للطبيعة في عالمنا الممسوس بالاستبداد، وبلغت تراجيدية مصيره أقصاها في رحيله، لكن ظلّه لن يغيب عن سورية حرّة وديموقراطية.
-
المصدر :
- العربي القديم