هل الأدباء قصيرو النظر في السياسة؟ في الحقيقة، هُم بعيدو النظر، أو هذا هو المفترض. عادةً ما يستهدون بالمبادئ الإنسانية الكبرى، أكثر من السياسات المتغيّرة حسب الظروف والمطامع والطموحات. تنمّ انحيازاتهم في القضايا المصيرية عمّا يمليه عليهم ما يعتقدون أنه يحقّق تطلّعات البشر. أمّا ما ارتكبه أدباء ومفكّرون من أخطاء جسيمة، فلأنّ الحقائق الإنسانية لم تكن معيار الحكم على الكثير من القضايا، ولا سيّما وقوع بلدانهم تحت وطأة نظام غاشم أو تحت الاحتلال.

في القرن الماضي، عندما استولى العسكر في بعض بلدان العالم على السلطة، سواء في بلدان أميركا اللاتينية أو البلدان العربية، تعامل مثقّفون مع الغاصب على أنه الفاتح العظيم، وزرعوا في الأذهان أنه سيحقّق أحلام الشعب بحياة كريمة؛ أمّا بحسب الانقلابي، فنِشدانُ ما يزيد عن الحياة الكريمة. ففي البلدان العربية، كان التقدّم ــ شعار اليسار في العالم ــ عنواناً عريضاً لما حفل به من آمال تعني الحرّية والمساواة. أضاف إليه الانقلابيون العرب وعوداً بتحرير فلسطين من عصابات الصهاينة، وكان التفاف بعض المثقّفين حولهم لاستثمار هذه الدعاوى طوال أكثر من نصف قرن وحتى الآن، لكنْ مع استفحال الظلم والفساد، لم تعد الآمالُ آمالاً بقدر ما أصبحت ذرائع لاستمراء اللغو بالأكاذيب على أنها حقائق.

لئلّا نتورّط في لغوٍ مشابه، قد يتعرّض المفكّرون والأدباء للتضليل، وفي هذا إشارة للفيلسوف الألماني هيغل، وإعجابه بنابليون وترحيبه المخزي به. لكنْ، علينا ألّا ننسى أن الإمبراطور الغازي اخترق أوروبا حاملاً قيَم الحرّية والمساواة والإخاء، ضدّ الإقطاعيات الرجعية، ولم يأتِ خالي الوفاض. كان يلوّح بأفكار فولتير وروسو ومونتيسكيو، رافعاً راية التنوير. منذئذ ما زالت عبارة هيغل الشهيرة تتردّد في الأسماع: “رأيتُ الإمبراطور، روحَ العالم، على صهوة حصان!”.

لم يكن الغزو الفرنسي، حسب هيغل، سوى عامل على تسريع حركة التاريخ، فرأى في الإمبراطور الفرنسي المثال المؤهّل ليشقّ طريق شعوب أوروبا نحو الحرية. فنابليون لم يكن محتلّاً بقدر ما كان ينفّذ إرادة التاريخ، وأداتَه لتغيير العالم بشكلٍ مجسّد. لم يستطع الرجل، الذي أوكل إليه التاريخ تنفيذ مهامّه؛ هزمته الرجعية الاقطاعية، وأرسلته منفياً إلى جزيرة سانت هيلينا، بعدما دشّن عهداً جديداً في القارّة، لكنّ أوروبا لم تعد بعده كما كانت قبله.

كان القرن الماضي المسرح العريض لعثرات المفكّرين والأدباء

ليست كلّ القصص شبيهة بقصص بنابليون وهيغل. الزلّات التي ارتكبها مفكّرون وأدباء لم تكن أحياناً أقلّ من خيانة، ليس لبلدانهم فقط، بل لأفكارهم أيضاً. كان مسرحها العريض في القرن الماضي، بعد الحرب العالمية الأولى التي خسرت فيها أوروبا ملايين من شبابها في حرب مجنونة، ما خلّف مشاعر الإحباط واليأس والعدمية، فشكّكت في العقل، ضمنَ حركةٍ أعلنت إفلاس المثُل العليا للتنوير، وتجلّت في الحطّ منه. كان ذلك أسوأ تعبير عن حالة التشاؤم الثقافي التي سادت بين الأدباء والمفكّرين، ما أدّى إلى انعكاس الخسائر في ميادين القتال على قاعات البحث الأكاديمي، فكان كتاب الفيلسوف الألماني أوسفالد شبينغلر “تدهور الحضارة”.

سيبلغ تدهورها ذروته خلال الأزمة الاقتصادية، فكان في صعود الفاشية والنازية استغلالٌ للمشاعر القومية، والتحريض على استعادة الشعوب كرامتها الوطنية. كان المناخ ملائماً لظهور موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا، وفرانكو في إسبانيا، وسالازار في البرتغال، وبدأ العدّ التصاعدي نحو صناعة الدكتاتورية، بينما كان ستالين قد سبقهم إلى صناعتها.

واكب هذه الدعوات بعض كبار المفكّرين الألمان والإيطاليين، مثل إرنست يونغر وغوتفريد بن، وفيليبو مارينيتي، وغابرييل دانونزيو. التحق بهم من فرنسا وبريطانيا وأميركا سيلين وبول دو مان وعزرا باوند وييتس وويندام لويس. وبلغ من انتشارها أن عالِم النفس كارل غوستاف يونغ ألقى خطاباً، عام 1932، احتفى فيه بما حقّقته الفاشية الإيطالية من انتصارات، هلّلتْ لها الأمّة الإيطالية فرحاً، بفضل شخصية القائد موسوليني، وحسدتهم الشعوب الأخرى، لافتقارها إلى زعماء أقوياء. عندما نشر هذه الخطبة عام 1934، أضاف إليها: “حدث منذ أن كتبتُ هذه الجملة أن وجدتْ ألمانيا أيضاً قائدها” ــ وكان هتلر.

بالنسبة إلى الذين ضللّهم مثالُ نابليون وهيغل، ليس دائماً ما تُوافينا روح العالم وهي تمتطي حصاناً وتنشد الحرّية. فلنأخذ حذرنا: شرور العالم تمتطي الدبّابات وتنشد العبودية.