في الأعوام الأخيرة، انحدرت مكانة الشعوب العربية وسمعتها، وأصيبت بشبهات إحداها الإرهاب، لم تكن سوى اتهامات كانت منها براء، وذلك عقب هزيمتها شر هزيمة في الصراع ضد الاستبداد. أصبحت ثورات الشعوب مدعاة للسخرية، فأي ضيم نالها، بالمقارنة مع ثورات شعوب انتصرت، ولم تذهب دماؤها هدرًا في القرنين الماضيين.

يعزو الفيلسوف فردريك هيجل انتصار الشعوب إلى قادتها. كان في التاسعة عشر من عمره عندما دنست سنابك الغزاة الفرنسيين أرض بلده ألمانيا، غض النظر عن فجيعته، عندما رأى نابليون يحمل شعلة الثورة إلى شعوب أوروبا. وعبر عن اللحظة التي وقع بصره عليه ممتطيًا حصانه: “رأيت الإمبراطور روح العالم على حصان”. رأى في الحملة النابليونية التي كبدت العالم آلاف الضحايا، ما هو أعمق، عبر عنه بالقول؛ إنها تجسيد لحركة التاريخ الصاعدة.

استطاعت الثورة الفرنسية اختراق أوروبا، بعدما حملت على كاهلها مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وانتصرت بالرغم من هزيمة نابليون في واترلو. فكرة الثورة لم تهزم، ما زالت تهدد الأنظمة الاستبدادية في العالم كله حتى الآن.

استخلص هيجل من المغامرة النابليونية، أن لكل شعب روح جماعية، لا يحس بها إلا الأبطال، أو الشخصيات الاستثنائية. إن البطل هو الشخص المفعم بآمال الشعب، يتميز بأنه يتمتع بحدس داخلي على عكس بقية البشر. لا يعني هذا أن هيجل يهتم بالأشخاص، كان يهتم بالتاريخ الكوني، وإذا اهتم بالشعب، فللتعرف إلى الروح التي ستحرره. وجد في نابليون الفرد الكوني، ممثل روح الشعب الذي سيلعب دورًا عظيما يعيد العالم إلى رشده، ما يدفع الشعوب إلى انتزاع حرياتها.

يستشعر البطل التاريخي ما يتوق إليه البشر. ويعرف الطريق للوصول إلى ما يطمحون إليه بشكل مبهم، ويجسده لهم. إنه الدليل إلى حقيقة واقعة. فالشعب بحاجة إلى الرجل العظيم، مكتشف خصوصيته التي تشكل جوهره، وغايته، وهدفه الأعلى في الحياة.

يفسر الإجماع حول البطل، أن الشعب من دونه لن يعرف الطريق الصحيح إلى الحرية، لكن هذا الرجل العظيم في الحقيقة، لا يعدو أكثر من أداة تستخدمها اليد الخفية للتاريخ من أجل تحقيق أغراضها وتنفيذ مخططاتها في تغيير العالم.

قد نستخلص من الثورات العربية حسب هيجل، هذا إذا شئنا تفسير هزيمتها، أن الشعب الذي قام بها، لم يحسن اختيار قادته، أو لم يتمثل قادتها روح الشعب، والأصح كليهما، فالثورات التي قامت كانت عفوية، لم تتمكن من صناعة قادتها، ولا رجالها العظام كانوا عظامًا، ولا مؤهلين لقيادتها، ومع أن للتاريخ خططه، لكنهم خذلوه. لا ثورات بلا قادة.

هذا المنظر المتهالك يكشف كيف تهزم الثورات رغم التضحيات، الشعوب لم تقصر، وإذا نحينا قصة الرجال العظام جانبًا، فأدوارهم مهما طالت إلى انتهاء، أما الشعوب فلا تهزم. عندما تكاثرت دول أوروبا وهزمت نابليون، وتكاثرت الدول ضد الثورات العربية وانتصرت عليها. في المثال الأول، كانت الثورة الفرنسية قد عممت شعاراتها في الحرية والإخاء والمساواة. وفي المثال الثاني، عممت الثورات العربية أيضًا شعارها، لا حرية من دون إسقاط الأنظمة. مات نابليون سجينًا، أما رفاقه ففي ساحات القتال بين قتيل وجريح، كذلك الثورات العربية ما أكثر شهداءها وضحاياها.

في العالم العربي، تعرضت صورة القادة العظام للتشويه، بعدما قدم عبد الناصر في زمانه صورة مهما نالها من نقد، كانت عظيمة ومشرفة للعرب، جاء من بعده من حاولوا تقليده رغبة بأمجاد السلطة لا بأعبائها، فكانوا نقمة على شعوبهم، حكموا بلدانهم عقودًا، قدموا المثال للبطل الزائف، وفي كثير من الأحيان المجرم واللص، لم يحاولوا تمثل روح الشعب ولا طموحاته، أخضعوا شعوبهم ونهبوها. كان جمع الثروات طموحهم الكبير الذي استهلك أعمارهم وأعمار الشعوب.

في الثورات استعاد الشعب إيمانه بقدراته، وإن لم يستطع الانتصار على حكام كانوا روح الشر، وما زال الأشرار يتربعون سدة السلطة، قادة لم يعودوا سوى أصحاب سوابق في الإجرام، تدعمهم قوى الشر في العالم، وإلا ماذا تكون روسيا المافياوية وإيران المذهبية؟ يسهو الزمن أحيانا وبغفلة منه، يأتي “قطاع طرق” التاريخ، ويحاولون بالحديد والنار قتل روح الشعب.

ما يجري منذ عقود، تجسيد لانحطاط الاستبداد إلى حد النهب الممنهج، وتجسيد لحركة التاريخ في انحدارها إلى الدرك الأسفل.