أعادنا فواز حداد إلى زمن القمع والاضطهاد في روايته ـ صورة الروائي ـ فقد بدأنا بتخطي ذلك العصر المرير، خاصة وأننا في زمن الربيع العربي، صورة الروائي تتماثل في طرحها مع “ألهؤلاء” بمجيد طوبيا، و”الوشم” لعبد المجيد الربيعي، و”شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، وما يجمع هذه الأعمال حديثها عن أساليب الأنظمة الاستبدادية في قمع مواطنيها، ففي “ألهؤلاء” أعطانا مجيد طوبيا صورة فنتازية لما تمارسه الأجهزة الآمنة بحق الفرد العربي، حيث جعل الأبرياء وغير المتهمين في هذه الأنظمة يساوي صفر، فكل مواطن أصبح متهما وعلى النظام محاسبة هؤلاء المتهمين والمتآمرين، وعبد المجيد الربيعي وعبد الرحمن منيف يصوران لنا الفرد في حالة الاعتقال والطرق التي تستخدم لإسقاطه وتحطيمه وتكسير كرامته، وما فعله فواز حداد في صورة الروائي جاء ليؤكد ما طرحه عبد المجيد طوبيا في “ألهؤلاء”، من خلال طرح الرواية صورة فنتازية للطرق التي تمارس على الفرد العربي من أجهزته الأمنية، ففي صورة الروائي يصل المحقق إلى البحث في العلاقة الزوجية الخاصة لعبد السلام المتهم بدون أي تهمة، سوى تهمة ( التسبب بزيادة النسل) من هنا يتم التحقيق على أساس إيجاد حل لمشكلة تكاثر النسل ويتم طرح فكرة الاخصاء، كأحد الحلول المقترحة، ويذكرنا فواز حداد بطرحه هذا باب الخيزران الذي كان مخصيا فعليا وقاد المجموعة إلى الموت في رواية “رجال في الشمس”، ورغم استخدام غسان كنفاني لحقيقة اخصاء أبو الخيزران إلا أته استخدم بشكل رمزي للقيادات العربية، أما رجب إسماعيل فكان غير مخصي لكنه يشعر بعدم قدرته على الفعل بعد اعترافه وإبداء الرغبة في التعاون مع المحقق، وكان الأنظمة تريدنا مخصين غير قادرين على الفعل، ولنستمع إلى المحقق وكيف يتعامل مع المتهم عبد السلام ( لقد أنجبت أطفالا أكثر من المعتاد)ص45 هكذا يصعقنا المحقق “س” بطرح تهمة لعبد السلام، فيعمق حجم الجرح الذي يحمله المواطن في سراديب القمع العربي، والتي لا تتوانى عن الصاق أي تهمة للمواطن فقط لإبقائه في حالة من العجز وعدم الفاعلية، واستمرارها في الحكم جاعلة من نفسها الحامي والحاضن للأمن أولا، ثم إظهار ـ قدسيتها وأهمية عملها فلم تدع لا صغيرة أو كبيرة من نواحي الحياة ،إلا وبحثت فيها، فكل فعل أو عمل يجب البحث مع قائله أو فاعله حتى يضمن استمرار وبقاء النظام وأجهزته الأمنية في عنفوانها وهيبتها.
�ونكمل جلسة التحقيق والكيفية التي يتم فيها تحليل الإفادة وطرق الاستنتاجات التي تؤخذ من أقوال المتهم
�( ـ متى تزوجت؟
�ـ منذ أربع سنوات
�ـ كم طفلا رزقت
�ـ ثلاثة أطفال، بنتان وطفل
�ـ أي طفل كل عام
�ـ نعم )
�أسئلة تبدو للوهلة الأول عادية وكلا منا سيجيب بذات الإجابة إن سؤل ويمكننا أيضا أن نوقع على هذه المعلومات ليس في التحقيق وحسب، بل في المحكمة أيضا، لكن في ظروف القهر والاستبداد يمسي الأمر على غير طبيعته.
�(ـ وقع هنا
�ـ على ماذا؟
�ـ على ما قلته قبل قليل، انتهى التحقيق)ص44
�يا له من تحقيق، أنجز المحقق مهمته الصعبة وأنهاها بكل نجاح وبأسرع وقت، ووجد ضالته من خلال أقوال المتهم عبد السلام، فهناك ما يهدد السلم الاجتماعي للنظام، وعلى المتهم تقبل هذه التهمة إن كان راضيا أو مكرها
��تراجع بظهره إلى الخلف، فرك كفيه ببعضهما وعقب
�(ـ أنت مسؤول عن زيادة النسل
�ـ لقد أنجبت أطفالا أكثر من المعتد)ص45
�هنا تكمن ذروة الهستريا عند الأنظمة الاستبدادية، فتمارس الاضطهاد وبجهل على المواطنين، فالنص يوضح جهل وسفاهة العقلية عند المحقق، فهو يمثل التخلف وعند الدراية بأبسط الحقوق للمواطن، كما يستدل على الحجم السيادي عند هؤلاء المتنفذين، فهم يفعلون ويقولون كل ما يريدون، بدون أي رقيب أو حسيب، في ظل لله في الأرض، ولا توجد أي موانع أو تعليمات تحد من سلطتهم،
�(ـ لنقل أن هناك قانون ليس صريحا وإنما ضمنيا وأنت لم تتقيد به
�ـ ليس لي علم بهذا القانون
�ـ هذا لا يعفيك من العمل به
�ـ ولم اسمع به
�ـ لمعلوماتك، لقد بدئ بتطبيقه على نطاق ضيق وتجريبي،… مؤكد انه بات امرأ محظورا ويعاقب عليه
�ـ وما عقوبته؟
�ـ من حسن حظك، اتهم لم يحددوا عقوبة بعد، ربما كانت السجن أو غرامة مالية أو اكتفوا بالتحذير أو التنبيه، مبدئيا لن ينوبك أي منهم، ولست مطلوبا بفعل شيء أو الامتناع عن شيء سوى انك ستبقى محتجزا لدينا.
�ـ محتجز؟ إنها عقوبة
�ـ انك محتجز وحسب، وأما إلى متى، فهذا ما لا علم لي به)ص46
�الفانتازيا في هذه الصورة أو الواقع الذي يمارس على المواطن تدفع به إلى مجاراة أداة القمع بما استنتجته، وتصدق التهم التي وجهة لها، وتبدأ في التفكير بطريقة لوقف عملية الانتهاك لقانون كثرة النسل، والتي نسبت لعبد السلام، الذي يفتح عقله ويصفي ذهنه للبحث عن حل لهذه المشكلة التي تهدد أساس وقواعد النظام وأجهزته
�(ـ سيدي المحقق، لقد فهمت من كلامك، أن ما يهمكم هو المستقبل، وانتم على حق في ذلك،… والحل بسيط وسهل، إنني أعدك بعدم الإنجاب، وسوف اضمنه بتناول زوجتي لحبوب منع المحل) ص46 إضافة إلى الجرائم التي مورست بحق المواطن يتم أيضا محو التفكير المنطقي العقلاني للضحية، والتي تدفع بها إلى التماثل مع موقف القوة والبطش والقهر، ولكن منطق عبد السلام لا يتوافق مع المحقق، الذي يسير الأمور حسب عقلية الشك وعدم الثقة بالآخرين، وأيضا الفكر السيادي الذي يعيشه ويمارسه، فيرد على طرح المتهم
�(ـ هل بوسعك الوثوق بها؟… الأسلوب الذي اقترحته بحاجة إلى نزاهة قصوى تفتقدها النساء كافة، )ص46
�لكن عبد السلام يستمر في طرح الأفكار للخلاص من هذا الشرك إلي وقع به يدلي بالمزيد من الحلول
�(ـ لن اكتفي بالحبوب وحدها، بل سأتداركها بالمانع المطاطي، إن استعماله يعتمد علي فقط،
�ـ للمانع المطاطي محاذير، أولها واهمها سوء الصنع
�ـ لكنهما بتضافرهما وسيلتان تثبتان فاعلية أكيدة
�ـ لكنهما ليسا مضمونتين مائة بالمائة
�ـ عندئذ لا مهرب من المكتوب
�ـ هنا لا علاقة لنا بالمكتوب أو غير المكتوب، في عرفنا المحظور ليس مكتوب
�ضحالة التفكير المنطقي عند المحقق تدفع بعبد السلام إلى الاستمرار في البحث عن مخارج جديدة لهذه الكتلة من الجهل والعناد
�(ـ سوف نلجأ للإجهاض
�ـ اعتبر نفسي أنني لم أسمعك، إياك أن تعيدها، الإجهاض غير قانوني ولا مأمون، وهو جريمة يعاقب عليها في الأرض والسماء)ص47
�ويتبادر إلى ذهن عبد السلام بان هناك تعاطف من هذا المحقق عندما قال( سأعتبر نفسي لم اسمع) لكن في حقيقة الأمر كل شيء يسر حسب طرق التحقيق المتبعة عند الأنظمة الاستبدادية، ولن يحصل أي تقدم ولو اجتمعت امة الثقلين لإقناع المحقق، بوجود مخرج ما لهذه الضحية التي يتلذذ بتعذيبها وإرهاقها نفسيا،
�ـ فيعود عبد السلام إلى طرح المزيد من الحلول لجريمة إكثار النسل المنسوبة إليه من قبل الأجهزة الأمنية.
�( ـ سأمتنع عن الاتصال بزوجتي
�ـ تمتنع؟ مستحيل
�ـ مستحيل؟ ما المستحيل فيه)ص48
�يستمر الجدل بين الضحية التي وقعت في حفرة الصياد وبين صياد ينتصب بكل عنفوان فوقها ويعمل بكل سادية لأزالتها وإنهائها من الوجود جسدا وروحا وفكرا، ومن هنا يتمادى الجلاد في نهج الاستنتاج القمعي
�( ألا ترى معي أن اعتقالك هو حماية لك من نوازعك وبهذا نضمن نحن وتضمن أنت عدم اتصالك بزوجتك)ص50
�من خلال هذه الفقرة نستنتج بان المحقق أرادنا أن نقتنع بصدقه وإيمانه بعمله، وبصواب تحليله واستنتاجه، حيث استخدم بكلامه( نضمن نحن وأنت) وكأنه فعلا يعمل على حل مشكلة عبد السلام، وهو صاحب فضل على هذا المعتقل والذي عمل على حل مشكلته (إكثار النسل) فمنعه عن الاتصال بزوجته، ففعله خلاق مبدع يستحق عليه الشكر والتقدير.
�أمام هذا المنطق لا يجد عبد السلام سوى التسليم بأمر الاعتقال، والقبول مرغما بالأمر الواقع، فيرخي تفكيره ويريح عقله، فيطرح سؤال ينهي الإشكالية مع منطق عقيم وضعيف
�( ـ هل هناك وسيلة، أي وسيلة للإفراج عني؟)ص50
�ويأتي الجواب يحمل عدم الجواب، ويزيد العبء على الضحية، فهو موقوف وهذا الإيقاف هو حكم خليفة الله على الأرض ولا من مخلص أو منقذ
�(ـ لا، اللهم إلا إذا ثبت بالدليل القاطع انك عاجز جنسيا، عندئذ لن يكون لك مكان هنا، ولن تكون لدينا قضية ضدك، هذا احتمال، ويجب أن تكون احتمالا لا يدخله الشك، يبت فيه أطباء الاختصاص،… انا نفسي لا اعرف ما الذي افعله بك، كل ما أدريه هو انه على احتجازك.
�… دخل رجلان، أشار المحقق إلى عبد السلام
�ـ خذوه، انه معتقل حتى إشعارا أخر.)ص51
�إننا أمام ماكينة لا تعرف إلا تنفيذ الأوامر، وبدون أي مشاعر إنسانية، كما أن هذه الماكينة أخذت طابعا ساديا في التعامل مع الآخرين، وهي مصممة لعملية القهر والإذلال وتحطيم المواطنين، وما أراده الراوي من العبارة الأخيرة( اللهم، وما اعرفه) بان الخلاص من براثن القمع والاستبداد صعب جدا وغير ممكن، وان أمكن فيكون بعد الاخصاء فعليا، بحيث تكون الضحية غير قادرة على الفعل ابدآ وبشكل أكيد ودائم، فهم لا يريدون أي عمل رجولي وأنساني لهذا المواطن، ويفعلون فعلتهم للإجهاز على كل فعل رجولي وأنساني يمكن للمواطن أن يقدم عليه، وهناك أحيان كثير حتى بعد الخصاء والتأكد من نجاح العملية لا يتم الإفراج عن الضحية، ولا ندري ما هو السبب، هل يعتبر ذلك إحراج للنظام وإظهار الجرائم التي يمارسها؟، أم أن الأنظمة لا تثق بنجاعة هذه العملية وتخشى إعادة الضحية إلى ممارسة الفعل المحظور مرة أخرى؟
�لم تنته عملية الإذلال والقهر للمواطن رغم ما وصلت إليه من ـ الذروةـ في اعتقادنا، وهنا تكمن المأساة كل من بفكر بما حصل لعبد السلام سيستكثر جحيم ونوعية القهر الذب تعرض له، وسيطالب بإيقاف هذا التحقيق، الذي أوصل الضحية إلى الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع، ولكن المحقق لا يكتفي بما استكثرناه نحن، ويمضي في إذلال وسحق الضحية حتى بعد الإجهاز عليها؟ فيقترح على عبد السلام اقتراح سافر يبن الهوة بين ما يحدث في المعتقلات القمعية وما هو ضمنه الإعلان العالمي لحقوق للإنسان
�( … عندئذ أسهمت بدوري باقتراح بقضي بتكليف مخبر لمراقبة الزوج والزوجة،)ص74
�فيأمل عبد السلام مرة أخرى في إيجاد منفذ لما ألت إليه الأمر من سوء، ويعود ويشارك المحقق في تحليه واستنتاجه
�(ـ هل تعرف مدى صعوبة هذه المهمة؟
�ـ لا
�ـ حسنا فلنتشارك في التفكير معا،
�ـ أليس من المحتمل أن يغافله الزوجان ويفعلانها خلال النهار؟
�ـ ربما
�ـ اذاً … ما الحل؟ هل نكلف موظفين يعملان بالتناوب، موظف ليلي وموظف نهاري؟
�ـ نعم هذا أفضل) ص75
�هذه الطرق القذرة التي تمارس بحق المواطن عند الأجهزة القمعية ، فلا تعرف حرمة إنسان، ولا تدري ما هي حقوق الإنسان، انهي فقط تعني وتعمل على نزع كل كرامة منه، وإبقائه معرى ومكسور وغير قادر على التفكير أو العمل بتاتا.
�مرة أخرى يعود المحقق إلى الضحية، ويجتر أفكار واستنتاجات، ما انزل الله بها من سلطان، ويقترح
�( ـ … نعم، حلا مضمونا، الاخصاء، وإذا أردنا استعارته فعلينا أن تخصي كل من لديه ثلاثة أطفال وما فوق) ص77
�هنا يتأكد لعبد السلام بان الاعتقال أهون بكثير من الاخصاء، واقل إيلاما ، فيقرر الحديث عن تهمة إكثار النسل وتجاهل الحديث عن الاخصاء، الذي يعيد المجتمع إلى مئات السنين وعصور العبيد والخصبان والجواري تعجب
�( تعجب المحقق متهم بماذا
�ـ المساهمة في زيادة النسل
�ـ لا، لا. أنت غير متهم بأي تهمة، أنت برئ
�ـ والاخصاء؟
�ـ لا إنها فكرة، … ومن نحن حتى نخصي فلانا أو فلانا، وبأي حق؟ ضع في ذهنك، أنك الآن كما كنت من قبل برئ… وأكررها برئ، هل أنت بحاجة إلى دليل إضافي؟) ص79
�لكن البراءة عند المحقق لا تمنح المتهم الحق في مغادرة غرفة التحقيق وتبقيه أسيرا وقابعا تحت سطوة وبطش المحقق، وهنا يظهر لنا المحقق مقدرته اللامتناهية في استخدام أساليب الإذلال وتعذيب الضحية، وسيستمر في فعله، فيلقي على مسمع عبد السلام برقية صادرة من الجهات العليا تطالبه بالقيام بعمل يظهر لهم انه أصبح مواطنا مطيعا ينفذ رغبات وتطلعات النظام
�( ـ ملخص البرقية انه سمح لك بالاتصال بزوجتك
�ـ شكرا سيدي، إنهم لم ينسوني
�أما التعليمات فهي
�تناول البرقية واخذ يقرأ
�1ـ على أن يسمح له بالاتصال الزوجي داخل غرفة المقابلة في المرك
�2ـ أن توافينا بنتيجة الاتصال إذا) ص185
�هنا تكمن ذروة الإذلال لعبد السلام وزوجته، حيث يرفض أن يمارس فعل المتزوجين داخل غرفة الانتظار في المركز، فيتعرض للضرب حتى يفقد الوعي، فتقوم زوجته باغتصابه، لعلى وعسى يخلص هذا الفعل زوجها مما هو فيه
.�إن رفض عبد السلام لأمر المحقق
�( بعد قليل ستقابل زوجنك في غرفة الزيارات تختلي بها… وما عليك سوى) ص187
�هناك حدود لكل شيء، حتى في حالة الانكسار وتراجع الهمم والعزائم، يكون مستوى لا يمكن لأحد تجاوزه، فعندما يتعلق الأمر بالحياة الخاصة، تمرد عبد السلام ورفض الانصياع للأوامر الصادرة من اكبر أداة قمع وبطش في عالمه، وبهذا الرفض يكزن عبد السلام قد مارس إرادته كانسان، فقد استنتج بأنه مهما فعل سيكون هناك مطالب جديدة للمحقق، وغم تأخر القرار إلا انه قال لا أخيرا، وهذه اللا تكفي عبد السلام وتعيد المحقق إلى نقطة البداية، فيظهر فشله في إيصال الضحية إلى ما يريد، وهنا نقول بان الفصل الثاني عشر هو اشد الفصول إيلاما للكاتب ولعبد السلام ولنا كقراء، ففيه من القهر والظلم ما لا يحتمله احد، خاصة انه يمثل تعالي الأجهزة القمعية عن كل المحرمات والمحظورات، فهي تمارس كل أنواع وأشكال الإذلال والقهر، لتحقق هدفها المتمثل بكسر إنسانية المواطن وتحطيمه، بحيث يمسي مجرد جثة حية لا تصلح لشيء،
�من هذا الباب نعتبر الرواية استمرار للروايات التي سبقتها ، شرق المتوسط والهؤلاء والوشم، والتي أرجعتنا إلى عهد البطش والقهر من القرن الماضي، لا ننكر بان الرواية جعلتنا نضطرب ونشعر بالإهانة والإذلال، رغم نسياننا لهذه الحالات في عصر الربيع العربي وتفاؤلنا بمستقل لعلى وعسى يكون أفضل، فعبد السلام مورس عليه أساليب قهر وإذلال أكثر مما مورس على رجب إسماعيل، وما تعرض له أكثر اهانة واشد بطشا.
�وما يميز هذا العمل انه جاء يصور لنا عملية التحقيق بصورة الفانتازيا، فهناك راويين للأحداث بالإضافة إلى الكاتب فواز حداد الذي يتدخل حينما تصعب الأمور على القارئ، وهذا جعل من الرواية أكثر متعة للقارئ لتعدد الأصوات فيها، كما إن البعد التاريخي فيها منحها ميزة تضاف إلى حسنها، حيث جاء الحديث عن فترة عبد الناصر والأحداث التي واكبت فترة قيادته لمصر والعالم العربي، خاصة فترة الوحدة مع سوريا التي أخذت وصفا وتحليا وافيا فيها، وخاصة الانقلابات التي عصفت بها في العقد الخامس والسادس من القرن الماضي، وأيضا أعطا الكاتب حرب 67 والهزيمة التي ألمت بالعرب ومدى تأثر ذلك على حياة عبد الناصر الذي عملت الأحداث على الإسراع في إنهاء حياة.
�ويعتبر فواز حداد أحداث أيلول بداية النهاية لحلم حركات التحرر في الوطن العربي من طغيان الأنظمة المستبدة، ( واعتقد أن أحداث أيلول ورغم كل شيء كانت ضربة قوية لليسار العربي، ومؤشر لتراجعات لم تتوقف حتى ألان) ص102
�وهذا الاستنتاج في محله، حيث كان أيلول محطة التراجعات في حركات التحرر العربي عامة والفلسطيني خاصة، ونؤكد بان تضمين الرواية الأحداث التاريخية جاء ليضفي عليها لمسة جمالية إضافية، بالإضافة إلى أسلوبها وطرحها الأخاذ، مما جعل القارئ ينهل منها وبشغف وبلذة ومتعة.
�يذكرنا الكاتب كذلك بموقف المؤسس والمفكر العربي ميشيل عفلق، الذي عمل بكل تفاني وإخلاص في سبيل الوحدة التي دفع أحيانا كثيرة ثمنا شخصيا لأجلها، ودون أن بثنيه ذلك عن التراجع عنها قيد أنملة، فكان حلمة بالوحدة التي أهم وأسمى من الحزب، وهنا تكمن التضحية الحقيقية، ففي عصر أمس الحزب أو التنظيم هدف بحد ذاته وهما فوق الجميع ـ الوطن والمواطن ـ بل في أحيان يجب التضحية بالوطن والمواطن في سبيل إبقاء الحزب أو التنظيم، جاء التذكير بموقف الرجال المخلصين لفكرهم ومبادئهم، وهذا أعادنا إلى جادة الصواب والطريق القويم، فعندما تم اتخاذ قرار حل الحزب في سبيل وإكراما للوحدة بين مصر وسوريا، كانت هذا الأمر في حينه سلبيا لكن وبعد هذه العقود يتبين عن صدق وإخلاص وصواب ما تم اتخاذه.
�ويمضي بنا فواز حداد في مذكرات الأستاذ قدوري ليبرز الشخص الذي كان الأكثر تأثرا به ميشيل عفلق، فيقول
�( في غيابه ستتبلور مفاهيم عدة، العرب أصحاب رسالة، تجديد الدور التاريخي والإنساني الموحد لتجربة الإسلام وإعطائه شكلا جديدة تفصح عن عبقرية الأمة العربية، رسالة الإسلام خلق إنسانية عربية ، تجسيد فكرة الأمة العربية الممثلة الوحيدة للقومية العربية
�إلى اعتبار الإسلام ثقافة قومية مرتبطة ببيئتهم الطبيعية ، دعوة عفلق لم يستجب لها المسيحيون ولم يطمئن لها المسلمون.)ص119
�وهذا اكبر تقدير واحترام يوصف به عفلق في الرواية ويتبين لنا التأثير والحب الذي يكنه كاتب المذكرات لعفلق، وما كان له أن يعرض فكر نشوء البعث بطريقة ناجحة كما فعل في الرواية، وهنا يضاف عنصر إبداعي جديد للعمل الروائي ـ صورة الروائي ـ وما جعل الرواية تتجاوز البعد الإقليمي هو ذكر محاولة الانقلاب في المغرب والأحداث أيلول في الأردن والتطرق إلى الانقلابات المتعددة في سوريا، وجعل عبد السلام يقف أمام المحقق ويسأل عنها، جعل القارئ العربي يشعر بعروبة الهم الذي يتعرض له عبد السلام.
�وفي نهاية هذا التعليق تضيف بان الرمزية التي استخدما الكاتب ـ عبد السلام ـ المتهم والضحية، والمحقق س الجلاد أعطا الرواية لمسة رمزية تُجمّل الشكل الذي كتبة به.