تُبرز هذه الحرب الطاحنة، الدائرة في غزّة، الحاجة إلى التبصُّر في وَضْع حلول ناجعة قابلة للتنفيذ لوضع حدٍّ لها، وليس كما يُطرح من اقتراحات متناقضة، تتبدّل على مدار الساعة، سواء في الإدارة الأميركية أو حلفائها الأوروبيّين، ومعهم الإسرائيليون. فلكُلّ وزير منهم رأيٌ لا يخلو من الصَّلَف الممجوج والغطرسة نفسها. هذه اللاحلول بمجموعها لن تُفضي إلى شيء، فالنفاق أكثر ما يبدو في العقلية الغربية الحائرة بين ما تُبطنه وما تُظهره، في البون الشاسع بين الإنسانية والعنصرية، بات من الصعب إخفاؤه، ظهر دفعة واحدة في هذه الأزمة، وإذا كان ظهوره قبيحاً من خلال الجهر والتلميح به، وكان بمنتهى البشاعة في كواليس الدبلوماسية والمجالس الحربية.

بالنسبة إليهم، تتركّز المشكلة كلّها في الجانب الفلسطيني، وحده بيده الحلّ الأوّل والأخير، فهو الأساس والسبب، ويُمكن تصوّر هذا الحلّ باختصار؛ وهو خروج الفلسطينيّين من هذه الصورة، لكن كيف؟ هذا ما يحتاج إلى خيال أعمى، ليس بعيد الصلة عمّا يجري، ولا من الصعب تحوّله إلى واقع، فالجهود جاهزة إن لم تكُن تستعدّ له، وما يجعله قابلاً للتطبيق مرونة الواقع نفسه، المدعوم بآلة حربية جبّارة وتأييد مُطلق من الحكومات الغربية التابعة، وإمكانية إفناء مدن بحالها مع سكّانها. أمّا ما يجعل تليين الطرف الفلسطيني وارداً جدّاً، فهو أنّ الحكومات العربية ليست ليّنة، بقدر ما هي مائعة، قابلة للتشكيل وإعادة التشكيل حسب الرغبة الأميركية، وما سيجعلها مقبولة لهم أنّها ستُفرض على المجتمع الدولي كأمر واقع.

بالعودة إلى الفلسطينيين الذين بيدهم الحلّ، يكفي التحلّي بالواقعية، والأخذ بروح التعقّل، أي أن يكونوا عقلانيّين في السلام، وليس كما هُم لاعقلانيون في الحرب، أمّا هذه العقلانية، ومن دون الدخول في أفكار عصر التنوير والحداثة التي لن يدخلوها، آن للفلسطينيين أن يصبحوا في سنّ الحكمة بعد خمسة وسبعين عاماً من الخيام والمجازر و”الترانسفر” إلى الحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء، لم يغب عنها القتل والقاتل.

لن تتحقّق ديستوبيا الشرّ مع وجود حشد عالمي داعم لفلسطين

هذا الماضي المستمرّ، تعرّضوا خلاله إلى تقلّص المساحة التي يعيشون عليها، وما عليهم إلّا الرضوخ لانسحابها النهائي من تحت أقدامهم، ريثما يُلملمون حوائجهم ويمسحون ذكرياتهم، ويغادرون دونما عودة إلى ما كان يُدعى وطناً، فلا فلسطين بعدها ولا فلسطينيّين. ما سيجعل أميركا تحسّ بالرضا لنجاح مشروعها السِّلمي بسلام، وتلتحق بها أوروبا التي ستشاركها مشاعر الرضا، ما يُكسب مَن كانوا فلسطينيّين سمعة طيّبة.

هذه العملية، قد لا تُشعِر المجتمع الدولي بالرضا، فالغرب لا يُخفي أساليب المراوغة والقمع والإجبار، ما يضع العالم أمام أزمة ضمير، لن تطول، إذ متى كان الضمير عاملاً في عرقلة نهب الشعوب والحروب، بالعكس كان عاملاً مساعداً، فالحلّ لن يكون حسب الادّعاء إلّا بوازع من الضمير، خاصّة أن الضمير نفسه ليس موحّداً، وعادة ما يكون من صناعة القوّة، فلا مشكلة في تنويعاته، طالما تُعاد صياغته حسب الظروف السياسية.

تعتمد السياسات الغربية الضمير السياسي، وليست بحاجة إلى غيره، ما دام أنّها تُغفله، ولا ترغب في التعرّف إليه. وفي حال بقي نَزْرٌ من الضمير الأخلاقي، فلا طاقة لديه على الاستمرار، لأنّ ما سيُبنى عليه، سيختفي بتذويب الفلسطينيّين في العالَم، أمّا ما سيحلّ بهم، فالتسلُّل عبر الحدود إلى بلدان الغرب، أو بلدان الجوار العربي، مع أن ما سيواجههم من مشاقّ سيكون أصعب، لكن أليسوا على شاكلتهم عرباً ومسلمين؟

يريد الغربُ “طوفان الأقصى” بديلاً عن “الهولوكوست”

سيفتح اختفاء الفلسطينيين آفاقاً جديدة، ويوفّر على العالَم أعباء مادّية ومعنوية. بالنسبة إلى الأميركان، مسارعتهم الدائمة لنجدة “إسرائيل” بالأسلحة ومليارات الدولارات والضخّ الإعلامي الهائل للتغطية على جرائمها وأكاذيبها، ومعها حكومات أوروبا اللاهثة وراء الأميركان. أمّا الأكثر مردودية فهو المعنوي، بإزاحة شبح “الهولوكوست” عن عاتق الحضارة الأوروبية، والأهمّ ألّا يتكرّر في بلدانها أو في فلسطين السابقة و”إسرائيل” الحالية، بالاحتياط مُسبقاً بألّا يحرق الفلسطينيون الإسرائيليّين، وذلك بتكريس فكرة استعمال “طوفان الأقصى” كبديل عن “الهولوكوست”، وهو ما تُتاجر به جوقة السّاسة الإسرائيليّين، على أمل أن يُصبح مع الوقت “طوفان الأقصى” البديل المعتمَد لـ”الهولوكوست”.

لن نناقش الغرب في أمر حسّاس لن يُفضي إلّا إلى جريمة بريئة، فهو يعتقد أن جميع شعوب العالَم تكره اليهود أسوة به، ولا يتصوّر أنّ العرب والأفارقة ومعهم الصينيون والهنود لا يكرهونهم، ولم تكن لديهم مشكلة يهودية. لكن الإزاحة ستتيح لهم “هولوكوست” فلسطينياً ينسخ “الهولوكوست” النازي، وإن كان في الواقع “هولوكوست” أوروبّياً، ما يمنحهم الغفران والتخلّص من الشعور بالذنب.

بخصوص المستقبل، ليس أنّ الغرب يرغب في اعتناق هذه الرواية الديستوبية، وإنما يُؤمن بها، بما يُسبغه عليها من سلام بات منشوداً في العالم، رغم أنّ تاريخه مع اليهود والفلسطينيّين ملوّث بالدماء.

ومع أنّ هذه الرواية مُحكَمة، ويكاد أن يبدأ العمل عليها، لكن أصابها الخلل، ربما لو أنّهم يسمعون أصوات البشر تصدح في شوارع العالَم بالحقّ الفلسطيني، بشر من جميع الجنسيات والأعراق والشعوب والأمم والأديان، لأدركوا أنّه من المستحيل تحقيق هذه الديستوبيا الشريرة.