بعدما نشر ستندال روايته الأولى “آرمانس” قال لصديقه الكاتب بروسبير ميريميه: إذا لم تكن الرواية تستدعي من القارئ سهر الليل، فما جدوى كتابتها، تلك هي المسألة؟! فُهمت هذه العبارة وأمثالها من النمط نفسه، أنه بوسع الرواية التغلّب على سلطان النوم، والأدهى الملل، والإغراء بقراءة مئات الصفحات عن امرأة ورجل، أو رجل وامرأتين، أو رجلين وامرأة، يجمعهم الغرام والمصادفات. هذا حسب القصص الرائجة مع بعض العقبات والصعوبات تتخللها مغامرات، ولا يستبعد أن تسقط خلالها ثلّة من الأشرار في قبضة العدالة، وبعض الضحايا، ونزر لا بأس به من الدموع، ثم النهاية السعيدة.

يحيلنا التشويق إلى الرواية البوليسية. يعتقد الكثيرون أنه لا يتحقق إلا بالمسدّسات والظلام والأشباح والجرائم الغامضة، برفقة محقّق عبقري كهركيول بوارو، او امرأة على غرار الموهوبة مس ماربل، يتمتعان بحدّة الملاحظة. هذا النوع من التشويق ما زال ساري المفعول.

ولئلا نُغفل الرواية البوليسية حقها، لا ريب أنها رواية منطقية، لا تسير فيها الأحداث كيفما اتفق، ولا تتصرف الشخصيات دون مسوغ. والأهم يستطيع أن يتعلّم منها الروائيون الذين يملأون الصفحات بالمونولوغات والتنفّجات والتخيّلات الجنسية والتداعيات المملة. لقد تعلّم قبلهم دستويفسكي من أوجين سو، وأومبرتو إيكو من الروايات البوليسية. للأسف، بالنسبة للروايات البوليسية، الذكاء لم يعد مطلوباً. بات الأكثر جاذبية؛ البطل الخارق، الأسلحة الفتاكة، الكاراتيه والجيدو، وسيارات سرعتها أقل من سرعة الصوت بقليل، ونساء جميلات، والعشرات يتساقطون قتلى، وربما المئات.

بالعودة إلى ستندال، ما قصده صاحب رواية “الأحمر والأسود” ليس الوصفات السابقة، ولو كانت مضمونة؛ بل قدرة الرواية مثلاً على الإمساك بالقارئ، طوال ما يزيد على خمسمائة صفحة. ما يشير إلى وصفة أخرى للتشويق، ليس عسيراً الإلماح إليها؛ تنظيم المشهد الروائي، تنامي الحدث، التصاعد الدرامي، زاوية معالجة الفكرة، مدى عمقها، التقاط المفارقات، لعبة الخيال، تبادل المواقع بين الوهم والواقع، التنقّل بين مستويات اللغة… تقنيات أكثر من أن تحصى، تدعى “فن إدارة الرواية”. وصفة لا تغفل الأبعاد الرحبة والمثيرة للتشويق، بموجبها يمكن سرد عناوين لعشرات الروايات العظيمة.

أما لماذا تفتقد الروايات العربية إلى هذا العنصر، رغم المشهيات من ناحية توخي العلاقات الطائشة، وافتعال المشاهد الجنسية، واللامبالاة، إضافة إلى الهوس بنيتشه وكافكا والعدم… فلأن الروايات المترجمة الأكثر مبيعاً ضلّلتها، وجرى الاعتقاد أن رواية “دافنشي كود” وغيرها من الروايات الرائجة، دليل على صناعة دقيقة لعمل محكم يقبل عليه قرّاء تستميلهم الألغاز الدينية، وسحر الأرقام، وخرافات التاريخ، ومتاهات القصور، والأسرار التي تعود إلى العصور الوسيطة. يجري تهويلها، ولو كان التاريخ ينفي ما يجهد الكاتب في ابتكاره من عوالم متوهمة، ومطاردات تحبس الأنفاس، تنكشف أخيراً عن فقاعة. هل هذه هي رواية العصر؟ لا، هذا إذا أدركنا أن التقليد يميل نحو الانحطاط، لا الابتكار.