هل تأتي الأعمال الروائية العظيمة من الظلام الذي في داخل الروائي؟ هذا السؤال لا يني يتردد بين عصر وآخر. لا خلاف على الظلام، والأمثلة كثيرة في الأدب العالمي والعربي، الحافل بأعمال عجّت بالقهر والقمع والسوداوية والتشاؤم، والرعب، والكوارث والانهيارات. والأمثلة أكثر من أن تحصى، رواية جورج أورويل “1984”، جوزف كونراد، في “قلب الظلام”، سولجنتسين في “جناح السرطان”، دوستويفسكي في “ذكريات من منزل الأموات”… إلخ.

ينفي أدب التفاؤل هذه السمعة عن الرواية، فما الظلام إلا من مبالغات الروائيين، عدا أن جاذبية تأسر الذين لا يرون في عالمنا سوى الخراب والعدم، إلى حد الاشتباه بأنه صناعة الأديب، وهو المسؤول عن قوة انتشاره والتهويل منه، ما دام صادراً من داخله، صنعه في عزلته، واستمده من بؤسه وتعاسته وأمراضه، أسبغها على رؤيته للحياة، بينما هي قصته وحده.

قد لا يخلو هذا الافتراض أحياناً من صحة، ذلك أن هناك من يكتب عن العذابات التي عانى منها، وعبر عنها بإحساس بالغ التأثير. هل في هذا نقطة لصالح الظلام الداخلي؟ لا، الكاتب لم يملك خياراً آخر، كتب عما يصيب الإنسان في سجنه الجسدي، فقد عانى بعض الأدباء من أمراض مستعصية وودعوا الحياة مبكرين، أو بعد عمر من الآلام، وكتبوا أروع أعمالهم سواء في عمر الشباب، أو في الشيخوخة من على فراش المرض والأوجاع.

“لا يمكن حصر أعداد الأدباء الذين تسلل الظلام إلى أعمالهم”
أما عن اعتبار الكاتب من صناع الظلام، على أنه إفراز من داخله، كأنه خلق مع جيناته، هذا إذا كان هناك جينات للظلام، فلن يكون إلا من نسيج روحه المعطوبة، ويمكن تصنيفه بشكل اعتباطي بأنه من الأدباء ناشري التعاسة واليأس وانعدام الرجاء.

إذا كان الظلام من حولنا ويحيط بنا، وعلى مدى النظر، فهو هذا الواقع الناجم عن طموحات البشر ومطامعهم والجشع إلى التسلط، أدى إلى تكريس الفقر والاستغلال، السجون والمحاكم، التعذيب والقتل والإبادة، الإعدامات والقبور الجماعية، الحروب والنهب، تشريد البشر، انتشار الفساد والجريمة والخيانة والأمراض والأوبئة، الدكتاتوريات، مصادرة العدالة عن العمل… هذا هو الظلام، الظلام الدامس.

من هذا الديجور، خرجت روايات دوستويفسكي الكبرى، تعبر عن الصراع الداخلي بين الإنسان وذاته، بين الأخلاق والفقر، بين الله والعدم. ونبعت عوالم روايات فرانز كافكا الكابوسية، في الاغتراب عن الذات والعالم، وتأثير الخوف من السلطة، وأخذتنا فرجينيا وولف من خلال تيار الوعي، إلى دهاليز النفس المعقدة، وهشاشة الذات في عالم صاخب.

كما ضرب الظلام بقسوة روايات الإنكليزي تشارلز ديكنز، والنرويجي كنوت هامسن، والفرنسي سيلين، والأميركي وليم فولكنر… ولم يستثن الشعراء، فالشعر موطنه الأليف، والأكثر حساسية، وتأثرا فيه، ظهر لدى إليوت في “أرض اليباب” وبودلير في “أزهار الشر” وغيرهم، غرفوا من أعماق تجاربهم، حيث الظلمة والمعنى متعانقان.

لا يمكن حصر أعداد الأدباء الذين تسلل الظلام إلى أعمالهم إن لم يكن قد سيطر عليها، إلى حد يكاد الظلام يكون هو الذي صنع الأدب، وكان له ضحايا، فالظلام الذي احتوى عقل فرجينا وولف، كان من فرط إحساسها به، ومقاومتها له، وإخفاق سعيها إلى التخلص منه، أن قادها إلى الانتحار.

حوّل الروائيون الظلام كمادة خام إلى الفن. ومنحوا الرواية شخصيات خالدة؛ راسكولنيكوف في رواية “الجريمة والعقاب”، و”دكتور جيكل ومستر هايد” في رواية ستيفنسون، و”جوزيف ك” في رواية كافكا “المحاكمة”، و”الأب غوريو” لدى بلزاك.

الفن الجيد لا يصف الظلام فقط، بل يُضيئه.. ويجر القارئ من كهفه الخاص إلى النور، إلى العالم غير المرئي، المتواري خلف السواد، يكشفه ويجعله مرئياً.