راجت الكثير من الحجج حول عدم ضرورة الكتابة عن حدث الربيع العربي روائياً، أغلبها كان للتنصُّل من تداعياته، قبل معرفة ما سيؤول إليه. أمّا الذريعة فكانت بريئة، أنه من المبكر مقاربته، على الكاتب الانتظار حتى تتكشف أبعاده، وتنضج الأفكار حوله في رأس الكاتب، والأفضل التمهُّل ريثما يتبلور شيء ما في ذهنه حياله لن يتوضّح إلّا بعد مرور سنوات على اختتام أعماله، وليس قبل أن يوضع حدٌ له على الأرض، والتخلُّص منه، بإرساله إلى الماضي، ويستقرّ في دفاتر التاريخ. أي هناك متّسع من الوقت لإدراجه في الرواية. إذاً بوسعه الانتظار.
بموجب هذا الاعتقاد، حسبما راج، وكما كان مأمولاً، انتظر بعض الكُتّاب هذا الربيع الذي لن يطول سوى بضعة أشهر، وتتساقط الأنظمة، وتحل عهود جديدة، بعدها يمكن الكتابة عنه باطمئنان، لكن مرّ ما يقارب عشر سنوات، مضت في ترقُّب قدوم الذي يأتي، ولم يأت، وتحوَّل الربيع إلى فصول مدلهمة وقاسية، ولم يبق منه سوى حطام.
الحجة الرئيسة في طيّ هذا الحدث في الماضي، أنه يسمح في المستقبل بإمعان النظر إليه من مسافة، تجعله أكثر موضوعية، ريثما يُفرج عن خباياه التي لن نلمّ بها عن قرب، أو ونحن في داخله. البرهان المثالي على حجتهم، رواية “الحرب والسلام” التي كتبها تولستوي بعد مضي مائة عام على غزو نابليون لروسيا. احتاج تولستوي إلى الكثير من المراجع والوثائق ليكتبها. وبالمقارنة مع الآن، مجريات الربيع بصعوده وسقوطه بمتناول النظر والذاكرة القريبة، وليس المطلوب من الكاتب الإلمام بأسراره، ما دام أنه يكتب عن الناس، وينظّر للتاريخ من موقعة الروائي، كأحداث جارية، لا كمؤرّخ.
هل يصح للرواية إغفاله والتخلّي عنه كلية للمؤرّخين؟
طبعاً، هناك روايات تدعم رأياً يدور حول إمكانية الكتابة عن الحدث خلال وقوعه، سواء طال أو لم يطل، كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، كثير من الروايات والقصص كتبت في الخنادق. فالروائي لا يكتب رواية تاريخية، بل رواية واقعية، تقع في خلال حرب، عاش أو يعيش فصولها. بالتالي، ما يقع على عاتق التاريخ، لا يقع مثله على عاتق الرواية.
حال الرواية اليوم مختلف عن حالها في القرن المنصرم، يلاحظ من ارتفاع رقم إصداراتها بمعدّلات قياسية بالنسبة إلينا، فدولة مثل فرنسا تقدّم في موسمها الأدبي ما يزيد عن خمسمائة رواية. وبالنظر إلى العالم، يصل الرقم إلى عدّة آلاف. ما يدلّ أنّ الرواية تخترق العالم؛ إن كان حول الحاضر، أو ما مضى، أو ما سيأتي، كذلك المتخيّل. إنها ليست صوت عصر واحد، بل صوت الزمن، وصوت حياة لا تغيب عنها حركة البشر والتاريخ والتقدم والتراجع والصعود والانهيار والموت… رواية تعكس العالم بمختلف تجلّياته.
لذلك لا شيء يمنع دخول الربيع العربي بمختلف وجوهه وتقلّباته ومتغيّراته إلى الرواية، مع أن أنظمة المنطقة لا ترحّب به، بدعوى توثيقه أولاً، ومن ثم احتكاره من قبل المؤرخين. لن نفهم هذه المعضلة الزائفة، إلّا إذا أدركنا أن الأنظمة تعمل على إحالة الثورات إلى التاريخ، هناك بدأت وهناك انتهت، وعدم اعتبار نتائجها واقعاً مستمرّاً نعاني منه، كلّف بلادنا مئات آلاف الضحايا لقاء جعله حقيقة ودليلاً، فهل يصح للرواية إغفاله، والتخلّي عنه كلية للمؤرّخين القادمين بعد عقود، وأن نثق بألا يغمط حقه، وتنتزع حقيقته؟ للرواية نصيب وللتاريخ نصيب. ولا عبث في القول: لولا الربيع فكأن هذا الزمن لم يكن. من هنا تأتي مسؤولية الرواية، قبل أن تجيّره الأنظمة لحساباتها.
يكتب المؤرّخ من زمن آخر، زمن مختلف، يطلّ على مشهد لا يعنيه إلّا كعمل يؤدّى حسب منهجية صارمة، بينما الروائي يقف في زمانه أمام مشهد هو طرف فيه، هذا كي نفهم ما معنى سردية، وأن كلّاً منّا يقدّم سرديته حسب الموقع الذي اختاره، وبالأصح حسب موقفه… وبالضد من سرديات قد تكتب بدلالة سطوة آلة الدولة من وسائل إعلام وخبراء ومحللين ومثقفين انتهازيين. لذلك رواية الواقع رواية الضرورة، إنها بالدرجة الأولى، سرديتنا، تعاكس سردية الأنظمة وتدحضها.
الروائي محايد، وإذا كان منحازاً ففي موقفه الإنساني، لديه القدرة على إدراك بواعث الذين وقفوا مع الأنظمة، والذين وقفوا مع الناس، والذين كانوا بين بين، والذين تواروا وراء مواقف يسارية زائفة، وأطلقوا على الثورة مسمّيات ابتدعوها، كانت خيانة لكل ما ثرثروا به طوال عقود مضت.
أن نكتب رواية عن زماننا، أي أن نكون شهوداً عليه، قضية أخلاقية أكثر منها قضية سياسية.
-
المصدر :
- العربي الجديد