اعتمد التواصُل بين البشر على الرسائل، فكانت تجتاز الحدود وتركب البحر، وتمتطي الطائرات، إلى أن أصبحت تسري في الأثير. كانت الرسائل عبارة عن ورق ومغلّفات وطوابع، وحبر، وتُكتَب بالقلَم. لم تقتصر على رجال الدّولة والعِلم والمتعلّمين، كان هناك من يعرف الكتابة والقراءة فيكتب للذين لا يعرفون.
جرى تنظيم التراسل بين الناس من خلال مؤسّسات البريد، هذه الطريقة قاربت على الانقراض في بلدان العالم الثالث لتخفيف المصاريف، فلم يعد هناك ساعي بريد، ولا صناديق بريد في الطُّرقات، والطوابع أصبحت تذكارية. لأوّل مرة تُثبت هذه البلدان أنّها تخطّت في التحديث الغرب الذي ما زال يستعملها، هناك سعاةُ بريد، وصناديق في الطرقات للرسائل، ليس كتقليد قومي، ما زالوا بحاجة إليها ربّما كنوع من البقاء على العهد، مع أنها الأكثر استعمالاً لمُراسلات الجِهات الرسمية إلى الأفراد.
اعتمد أدباء القرن التاسع عشر على الرسائل، بينما اعتمد أدباء القرن العشرين على استخدام الهاتف، إلّا أنّ اعتماد أدباء القرن العشرين على الفاكس ليس طويلاً، إذ في هذا القرن سيبدأ الاعتماد على ما ينتجه الإنترنت من وسائل للتواصل، أبرزُها البريد الإلكتروني، وسوف يسود في القرن الواحد والعشرين مع الهاتف الجوّال، لا سيما في الصحافة، فوصول التقارير الصحافية يتم في التوِّ واللحظة، مهما تأخَّرت، فبضع ثوانٍ لا أكثر.
تَطوُّر الوسائل التكنولوجية في عصرنا لم يعُد يسمح حتّى بالتفكير بكتابةِ رسالة وإرسالها عن طريق البريد. قبل بضعة عقود، كان ذلك أمراً طبيعياً، أمّا الآن فأصبحنا نكتفي بالرسائل الإلكترونية. لكن لماذا نفتقد الرسائل القديمة، والشعور بالحنين إليها، على الرغم من عيوبها، حيث كانت تأخذ زمناً طويلا للوصول والرجوع، قد يطول إلى أشهر؟ هذا يعود إلى دارسي الأدب والأدباء والقُرّاء، رغبةٌ تحرّض عليها نزعةُ المعرفة والتلصّص والتعرّف إلى الماضي من خلال الرسائل المتبادلة. يعنينا منها تلك التي يتبادلها الأدباء بعضهم مع بعض، ومع حبيباتهم وأصدقائهم، هذا إذا لم يغدُر بها الزمن، وتنطوي فيه، أو تُتلف عمداً، إلّا إذا حظينا بمن لا يزالُ يحتفظ بها.
رغبةٌ تحرّض عليها نزعة المعرفة والتلصّص على الماضي
الرسائل تواصلٌ خاص بين اثنين، أشبه بالهمس، فلا يقرأها غيرهما، تمتاز بخصوصيتها وهو مبعث جاذبيتها. يكمن سحرها بالنسبة لنا – نحن القرّاء – بالتعرف إلى مكنونات الآخرين، لا تخلو من تنصّت إلى مشاعر العشّاق، يكشف فيها الكاتب عن نفسه، يفرج عن مكنوناته للأصدقاء المُخلصين، أو للمرأة التي يحبّها، يبوح لها بأسرار حميمية لا تقال حتى لأقرب المقرّبين. كما لا تخلو من مشهديات حياة تُعاش في العمق، لا تخلو من طرافة وحنكة وحدّة في البَصر والبصيرة، الرسائل أحد شهود عصره.
أهمية نشر مراسلات الأدباء أننا نعثر فيها على إضاءات نادرة عن همومهم النفسية والإبداعية، ما يقدّم للدارسين معلومات تفصيلية تفسّر ما غمض من رواياتهم وأعمالهم، تساعد على تحليل شخصيّاتهم وأخلاقهم ومواقفهم الاجتماعية والسياسية، والأسباب الخفيّة لسلوكهم. كذلك الأمور الصغيرة الكامنة وراء الحقائق العظيمة، وربما ذلك الانحطاط او الخيانة أو تنصّل الأديب من مسؤوليّته عن أفعاله. إنها العالم الجوّاني للأدب والأدباء.
ففي رسائل فلوبير مثلاً، نطّلع على سرّ كتابته روايته “مدام بوفاري”، وكيفية تحوّل تلك المادّة الجنينية إلى تجربة شخصية، ثم إلى عمل أدبي، عملية تختلف من أديب إلى آخر. فما نجده في رسائل كافكا ودوستويفسكي، يختلف عن رسائل تولستوي وفرجينيا وولف، كذلك في رسائل إرنست هيمنغواي وسكوت فيتزجيرالد، مع أنهما من جيل واحد، ما يجمع أو يفرّق بينها في ذلك التناول المثير لعصر عاشوه معاً، والنظر إلى الكتابة والنزاع حول الأفكار.
ففي الرسائل يحاول الأدباء التبرير الذاتي من خلال التقييم الهادئ والذكي لمواقفهم، يخالطه التعبير الحار عن عواطفهم، إلى حدّ الشغف والتعبّد، بحيث تصبح رسائلهم في بعض الأحيان جزءاً لا يتجزّأ من أعمالهم الأدبية نظراً لروعتها وجمالها، عدا أنها تشكّل زخراً لا ينضب من المعلومات عن شخصيّته وحياته، تكتنز بالتفاصيل الصغيرة عن المشاغل العادية اليومية، فنرى زولا وبلزاك أشخاصاً عاديين كبقية البشر. كما نطّلع على أحداث ومعطيات عن فترة بأسرها في تاريخ البلد، ما يهمّ المؤرخين أيضاً وليس النقّاد فقط.
وتذكُّر هؤلاء الذين يعتقدون بأن الماضي ليس إلّا وهماً وتخيُّلات، أو أنه لم يكن، بأنه كان وليس مشكوكاً في وجوده وحدوثه، يضجّ بالحياة والبشر، نستعيد أشخاصه أحياء يبتهجون ويحزنون، يحبون ويكرهون. إنّه حياة تزخر بالمآسي والأفراح.
-
المصدر :
- العربي الجديد