ذاع صيت الكاتب الألماني غونتر غراس بعد روايته “طبل الصفيح” التي نشرت عام 1959، وكانت قراءة تاريخية نقدية للأحداث المهمة التي شهدتها أوروبا، خصوصاً ألمانيا في القرن العشرين، اتخذت شكلاً روائياً ملهماً، وكان لجرأتها وكشوفاتها أن حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1999.

وصل غراس إلى الشهرة بعد معاناة طويلة، لم يتمكن من متابعة دراسته الثانوية، عمل في منجم للفحم، ومعصرة للشمندر السكري، إلى أن انتسب إلى أكاديمية الفنون وتعلم الرسم والنحت، وفي مكتبة الكنيسة توفر له ما تاق إليه دائماً؛ كتب الأدب، فتعرف إلى شعراء الباروك وأوائل التعبيريين.

تأتي أهمية غراس الاستثنائية، في أنه لم يكن مجرد كاتب مشهور، كان مثقفًاً صاحب مواقف سياسية مشهودة استجرت عليه الكثير من الخصومات من داخل ألمانيا وخارجها، فقد انتقد في رواياته المجتمع الألماني قبل الحرب وبعدها، ولم يوفر الجرائم الفظيعة التي ارتكبها النازيون بحق اليهود وغير اليهود، ووجه الأنظار إلى المسؤولية التاريخية التي ستتحمل آثارها الأجيال القادمة في أحداث لم تلعب فيها أي دور.

عرف بمعارضته للحرب على العراق عام 2003. أما موقفه الأشهر، فكان تضامنه مع الشعب الفلسطيني، تصدى لحملة الإرهاب الفكري التي شنتها ضده إسرائيل، ومناصروها. اتهم بمعاداة السامية من جراء هجماته على إسرائيل، دولة لا تمثّل اليهود وإنما تستغل مأساتهم التاريخية وتأخذهم كرهائن، واصفاً إياها بالدولة المحتلة التي سرقت أراضي الفلسطينيين، وطردت السكان واعتبرتهم مواطنين من الدرجة الثانية. انتقد سياساتها التوسعية والاستيطانية.

“تضامن مع الشعب الفلسطيني، وتصدى لحملة الإرهاب الفكري”

وصم إسرائيل بأنها تهديد للسلام العالمي، في قصيدة تحمل عنوان “بطل من أيامنا”، أشاد بها بموردخاي فعنونو، الذي كشف تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي السري عام 1986.

لم يتوان غراس في سيرته الذاتية عن تحمل مسؤولية الاعتراف بانخراطه في الشبيبة الهتلرية في مرحلة مبكرة من حياته وإعجابه بهتلر إلى درجة التقديس. رغم ما أصاب جمهوره من صدمة جراء اعترافه هذا.

كان فتىً في الثانية عشرة، حين اشتعلت الحرب العالمية الثانية، فانبهر بشخصية الزعيم الألماني بتأثير الحملات الدعائية التي كانت تبشّر بالنصر المحتّم.

من الصعوبة فصل إبداعه الأدبي عن مواقفه السياسية، ومثلما في أدبه، كذلك في مواقفه دافع عن قضايا إنسانية، تبنى المساواة والتسامح والسلام. فالأديب الحقيقي، مثقف حقيقي، يمتلك وجهة نظر من قضايا مجتمعه والعالم والحياة. كان من الطبيعي أن يتخذ جانب الحرية والديمقراطية، وأن يقف في صف المعارضة ضد الأنظمة السياسية.

في عصرنا هذا، عصر القوة والميديا والأكاذيب، ما زال للاستبداد أنصار من الدول الكبرى تتقاطع مصالحهم معه وتسعى إلى دوام الطغيان. تفتقد هذه الشعوب رحيل رجل مثل غراس، ينشر النور، ولا يتهيب من قول الحقيقة، ويمثل النقيض لمثقفي السلطة ناشري الظلام.

لم يكن عبثاً، عندما وصفته الأكاديمية السويدية عند منحه جائزة نوبل بأنه “رجل من عصر التنوير”.