إنّها حربٌ شاملة، لن نُخطئها على شاشة التلفاز، رغم أنّ الحرب على غزّة بعيدةٌ عنّا ربما آلاف الكيلومترات، تفصلنا عنها بحار أو محيطات، مع هذا نُحسّ أنّها تدور من حولنا، وتنال منّا؛ فالقصف الإسرائيلي لا يتوقّف، وغطرسة نتانياهو وأمثاله تتعالى، تُهدّد بالقتل والدمار، والتصريحات الأوروبية تُناصر الإسرائيليين، امتثالاً لأميركا بايدن، ليست مزعجة، إلّا لأنّها تجعلنا نفقد قناعتنا بالديمقراطيات المُسيَّرة عن بُعد، فكما هي ساحة للحريات هي أيضاً ساحة للأكاذيب والنفاق والرياء والإنكار ودعوة لارتكاب أعتى أنواع الجرائم، لا مبادئ ولا قيم، حكومات تنقاد لمصالح سياسية انتهازية، ومخاوف مفبركة، ليست كلّها إلّا تعبيراً عن انحياز مُسبق.

وإذا كنّا أمام شاشة اللابتوب، فسوف نُدرك أنّنا مستهدَفون في عزلتنا، طالما أنّ صفحاتنا على فيسبوك خاضعة للمراقبة، كلّ ما نكتبه، أو نعيد عرضه من صور أو فيديوهات يتعرّض للتفتيش. هناك آلاف الموظّفين مهمّتهم الحظر والتهديد والتحذير، صلاحياتهم تتحدّد بمُصادرة الرأي الآخر، ويُطاول إغلاق الصفحة، أو تحديد حركتها ومحاصرتها، أو تقليص أصدقائنا. بات إبداء الرأي في وسائل التواصل يُعرّضنا إلى الاتهام بالإرهاب، هذه الكلمة السحرية التي أثبتت مفعولها دائماً، لديها القدرة على تحويل أي إنسان يجلس في بيته مع أطفاله إلى إرهابي، وأولاده إلى مشاريع إرهابيّين.

أضاف الغرب إلى المجازر والتهجير وتدمير المدن إسكاتَ البشر

لا تستهن بالأخ الأكبر، إنه يرصدك، الاتهامات مُجدولة في قائمة لا تستثني أحداً، جاهز لحرمانك حتى من الهواء، بوسعه اختراق حدود الدول، والدخول إلى بيتك، والتنقيب في رأسك والعثور على مؤامرة، واتّهامك بما شاء. وإذا كنت في إحدى مناطق القتال، فأنت تحت طائلة فوهة بندقية قنّاص. يجب أن تعرف بأنّ الفضاء ملك للأخ الأكبر.

بينما الفضاء مفتوح لقادة دول يطلقون تصريحات الحياة والموت، وسياسيّين محترفين يبرّرون قصف المستشفيات بإنكاره، ومحلّلين استراتيجيين يُبيحون قتل النساء والأطفال، تُوفّر لهم وسائل الإعلام الكُبرى منصّات يتوعّدون الفلسطينيين منها.

هذه الحرب الشاملة ليست وليدة حرب غزة، لقد شُنّت علينا منذ أعطى بلفور، الوزيرُ البريطاني، لليهود وعداً بإقامة دولة في فلسطين، تطوّرت على وقع التمدُّد الاستعماري في منطقتنا، واستفادت من نازية هتلر، وتقدّمت أدواتها بابتداع الأكاذيب في المؤتمرات الدولية، وبلغت ذروتها في الهمجية مع تطوُّر صناعة السلاح، وباتت في تقدُّم مستمرّ من خلال ارتكاب المجازر والتهجير وتدمير المدن. في زماننا أضافت مع ظهور وسائل التواصل، إلى نشاطاتها الحربية، إسكات البشر. فالجرائم المرتكبة يومياً، يجب الصمت عنها.

اصطفّت الحكومات الغربية مع “إسرائيل” ضد الفلسطينيّين في خندق واحد، وكان في تسويغ مواقفها أمام شعوبها، تصوير “إسرائيل” على أنّها الضحية، إلى حدّ أنها وصفت ما وقع عليها في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر بـ”الهولوكست الثاني”. هل ثمّة أبلغ من هذا التضليل؟ ليس لتستدرّ شفقة الرأي العام فقط، بل ليستبيح الجيش الاسرائيلي غزّة بحرب إبادة. لم تقتصر المساعدات الغربية على السلاح والبوارج والمليارات، بل على التحكّم أيضاً في وسائل الاعلام، ففي حديث الرئيس الإسرائيلي هرتزوغ مع رئيس الوزراء البريطاني سوناك، وكان على الملأ، طالبه بحجب الأخبار المؤيّدة لحماس والمُعادية لـ”إسرائيل” في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC).

هذا في الوقت الذي وقّع أكثر من 2000 ممثّل وفنّان بريطاني على رسالة مفتوحة تدعو إلى الوقف الفوري للحصار والقصف الإسرائيليَّين على غزّة، وتُجرّم قطع إمدادات المياه والكهرباء والغذاء والدواء عن 2.3 مليون فلسطيني، وتصف بالكارثة تحويل غزّة إلى أنقاض.

هؤلاء لن يتعرّضوا للمحاكمة ولا للطرد من وظائفهم، احتجاجهم الجماعي يحميهم، بينما الذين عبّروا عن رأيهم بشكل فردي، فقد أُجبروا على الاستقالة وبطريقة مُهينة، كما تلقّى برلمانيون فرنسيون، بسبب مناصرتهم لغزة، تهديدات وصلت إلى التهديد بالقتل، من دون حماية من حكومتهم.

تتشارك دول الغرب في تقديم أنموذج استثنائي، قد يصبح دارجاً، ليس أقلّ من التحوّل إلى ديمقراطيات دكتاتورية. ففي انحيازها الأعمى والواعي لـ”إسرائيل”، بات تداوُل مقولات العدالة والحرية والحقيقة، يقتصر على الجامعات والأبحاث والمنظَّمات الإنسانية، بينما تُصادَر خارجها، مع أنّ برهان تحقُّقها العمَلي ليس له وجود إلّا بالتأثير في سياسات الدول، وانعكاسه على أداء السياسيّين وآرائهم. وإذا كنا نشهد غياباً فاضحاً لها، فللمزاودة في الانتخابات، وتبادُل المصالح بين الحكومات، لكنّ، رغم المراوغة والأكاذيب والتضليل، ومحاولاتها منع شعوبها من التعبير عن رفضها للحرب، تَخرج المظاهرات في شوارع أميركا وأوروبا مؤيّدة للحقوق الفلسطينية، فالشعوب تُدرك ما يَعنيه الظلم، مثلما لا تجهل العدالة.