بعد أن هدأت ضجّة محاولة اغتيال سلمان رشدي، لا بأس بإعادة النظر في حرّية التعبير، تلك التي ندافع عنها، ولا نساوم عليها، خاصّة أنّ هذا العصر يُعتبر العصر الذهبي لحرّية التعبير في العالم، لا سيّما الغربي، أمّا في عالمنا نحن، فمن العبث الكلام عن التعبير أو عن الحرّية. فالكثيرون منّا عاشوا أعمارهم كلّها تقريباً في بلدان تفتقر إلى أكثر من حرّية التعبير بكثير، وناضلوا من أجل الحقّ في العيش بكرامة، وشهدنا كيف تجاهلَ العالم الحرّ حقّنا هذا المعلن في الربيع العربي، ببراعة براغماتية يمكن وصفها بأنها الأكثر خسّة في هذا العصر، كان بوسعه فعلُ شيء، لكنّه لم يفعل، بل تقصّد الاستهانة بأرواح البشر، طبقاً لمصالحه الانتهازية، تلك التي أصبحت من طبائع الدول الدكتاتورية والديمقراطية معاً.

في هذا العصر الذهبي لحرّية التعبير في الغرب، بوسع أحرار الغرب تمزيق القرآن وحرقه، والسخرية من نبي المسلمين برسوم كاريكاتورية، وغيرها كثير، وسبقها الكثير، حيث كان كتاب سلمان رشدي أحدها، فحرّية التعرّض للأديان في الغرب بشكل سلبي محفوظة، فحسب القانون يعتبر الدين عبارة عن أفكار يحقّ انتقادها كأيّة فكرة أُخرى. هذا كي نفهم كيف يُنظَر إلى الدين، ليس كشيءٍ مقدّس، إنه مجموعةُ أفكارٍ لا بشر يعتنقون هذه الأفكار، أي يحقّ انتقاد هذه الأفكار على أيّ وجه حتّى بالسخرية والتحقير، لكن لا يحقّ مهاجمة معتنقيها، وللتوضيح انتقاد الإسلام لا انتقاد المسلمين، ولو جرحت مشاعرهم، أو آذتهم في الصميم.

أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها وسائلَ إعلام، فُرصاً هائلة للتعبير، وباتت هناك مطالبات بوضع حدود لها، بسبب “فيالق الحمقى” حسب تعبير أمبرتو إيكو، لكن كان الأمل باحتوائهم في فضاءٍ رحبٍ امتيازُه عدم التمييز بين الحمقى والأذكياء، والأخيار والأشرار، فالأبواب مفتوحة لكليهما. ولنقُل إنها فرصة ممنوحة للجميع لإشعال الجحيم، فهذه الوسائل قدّمت دفعة كبيرة للتعبير، ليس فقط في تلك الزيادة الهائلة في حجم المادّة المنشورة، بل وأيضاً في تداولها بسرعة شديدة في الفضاء وعبر الحدود، فإشعال حريق في هذه اللحظة، يصبح معلوماً في اللحظة التالية في أقاصي الأرض، فالمسافات ليست عائقاً، ما ينتج منه غالباً ردود فعلٍ ليست إلا امتداداً لهذا الحريق. فللأُمم المختلفة أفكار مختلفة عما ينبغي أن يقال أو لا يقال.

تأمُّل مخاطر حرّية التعبير المُطلقة التي تستفزّ البشر في معتقداتهم

بيد أنّ الأمر لم يتوقّف عند مشعلي الحرائق، هناك ناشرو الكراهية من طالبي الشهرة الذين تؤدّي حماقاتهم إلى الإساءة لمجتمعات تشكو من أوضاعٍ مؤلمة، سرعان ما تستجيب للتحريض، لديها استعدادٌ لاستشراء الفوضى تحت تأثير ما يمسُّ معتقداتها، وليست لديها المناعة الكافية ضدّ الحريات اللّا مسؤولة، فتذهب ضحية لها.

عام 2012 نشر رجل مقطعَ فيديو قصيراً على يوتيوب تحت عنوان “براءة المسلمين”. أظهر فيه النبيّ محمّداً في أوضاع تُمثّل إساءة للمسلمين. كان من المُمكن ألّا يعلم بهذا الفيلم أحدٌ من فرط تفاهته، لكن جاء مَن ترجمه إلى العربية، وأعاد إطلاقه ثانية. لم يمض وقت طويل حتّى صار هذا الفيلم سبباً في اندلاع المظاهرات في شتّى أرجاء العالم الإسلامي. وامتدّت المظاهرات إلى أفغانستان، وأستراليا، وبريطانيا، وفرنسا والهند. وبحلول نهاية الشهر كان خمسون شخصاً، على الأقلّ، قد لقوا مصرعهم.

ما يدعو إلى التأمّل فعلاً، هو مخاطر حرّية التعبير المُطلقة التي تنحو إلى استفزاز البشر في معتقداتهم. مع العلم أنّنا مُلزمون بالدفاع عن حرّية الرأي، ونطالب بها، لكن ماذا لو كانت هذه الحرّية تؤدّي إلى العنف والقتل وإيقاع الأذى بالمئات والآلاف إلى حدّ الموت، ولا أقلّ من إيذاء مشاعر الملايين، والتحريض على كراهية الآخر؟

بالتعريج على رواية رشدي “آيات شيطانية” لم يكن مفاجأة ما أثارُه نشرها من اضطرابات في الهند والباكستان، فقد حذّر مستشارو الناشر والكاتب من مغبّة نشر الرواية، وأيّدهم ممثّلُ دار النشر في الهند. كما أنّ رُشدي بالذات حذّر في كتاب سابق له من خطر إقدام العامّة – في بلده الهند – على القتل لأسباب دينية، وغالباً كان يعرف ما حدث حين نُشرت قصّة قصيرة تسخر من النبي، أدّت إلى إحداث شغبٍ ومقتل خمسين شخصاً.

تسبّب نشر رواية “آيات شيطانية” بشغبٍ في الهند وباكستان ومقتل عشرين شخصاً على الرغم من منع الرواية في البلدين، وكان من جرائها، أنّه تحت ظلّ العولمة، أُتيح لفتوى التحريض على قتلِه اجتيازُ الحدود إلى العالم. ما نرغب في قوله، إنّ رشدي وناشره كانا يعلمان بأنّ أرواحاً ستزهق نتيجة نشر الرواية.

قد نقول إنّ حرّية التعبير مُكلفة، ولها ثمن لا بدّ من أن يدفعه بضع عشرات من الناس، في سبيل نشر العِلمانية ودحض الخرافات. لكنّ هذا رأي الغرب، ولا يوافقه عليه الكثير من المتديّنين في الغرب نفسه التابعين للكنيسة، ويؤمنون بما يُدعَى “الخرافات” التي يُؤمن بها المسلمون، لكن؛ هل أدى هذا إلى تراجع الدِّين؟ ويمكن بالمقابل الادّعاء بأن رشدي كأيّ كاتب آخر، تحرّكه نوازع أنانية تحت غطاءٍ من حرّية التعبير هي السعي إلى الشهرة والمال، ولقد حصل عليهما معاً.

لن نناقش الدوافع ولا التشكيك في النزعات، نحن في صدد الضحايا. في الحقيقة ما يفصل بين حرية التعبير المُطلقة، والعبث بحياة البشر، يكاد يكون لا شيء. لذلك لا توجد حلول سهلة أو صعبة، إذ لا حلّ فعلاً، إلّا إذا اعتقدنا أنّ الضحايا مهما بلغ عددهم عبارة عن خسائر جانبية. لكن ماذا عن المسؤولية تُجاه الحياة، ففي النهاية إنّها حياة إنسان سواء كان على حقٍّ أو على باطل. كذلك من جانب آخر، لا يجوز مصادرة حرّية التعبير تحت أيّ سبب. العالم ليس مستعداً لفقدان هذه الحرية بالرقابة، ووضع قيود ستزداد مع الوقت إحكاماً على الحرّية، والتضحية بالتعبير، المُؤسف أن موت آلاف البشر لا يشكّل ضمانة لحرية التعبير.