خاضت الإمبريالية آخر صراعاتها الأيديولوجية المظفّرة في العالم، في الحرب الباردة ضد الكتلة الاشتراكية، وسجّلت انتصارها مع سقوط جدار برلين، تداعى على أثره انهيار شمل بلدان الاشتراكيات الأوروبية.

كوفئت الدولة الإمبريالية وملحقاتها على انتصارها المؤزّر، بتتويجها عالمياً بالدول الديمقراطية التي رفعت شعارات الحرية. وهكذا انتهت مرحلة من تاريخ العالم، وبدأت مرحلة أخرى، بوضع حد لصراع شطَر العالم الى كتلتين متناحرتين، بعدما استتبّ الأمر للديمقراطية، حتى إن مفكراً أصبح مرموقاً، بشّر بنهاية التاريخ، عقب هذه الخاتمة السعيدة، فالسلم حلّ على الكوكب، ولم يعد هناك ما يحدث، سوى أن البشر سيتمتعون بحياة بلا حروب وعيش بلا صراعات. أمّا بلدان القارّة السوداء والشعوب العربية؛ ففي طريقها إلى الديمقراطية عاجلاً أو آجلاً، إذ ليس ثمة طريق آخر، الدرب إلى نمط الدولة الشمولية أصبح مسدوداً.

التاريخ لم ينته، والسلام لم يحل على المعمورة، والصراع ما زال مستمراً، بارداً وساخناً. ما زالت هناك شراذم متفرّقة في العالم مضادة للديمقراطية ومنيعة عليها. فاستعجلت أوروبا الغربية تأييد التحولات في أوروبا الشرقية حرصاً على سمعة القارة، فملأت المظاهرات الملوّنة الساحات تحت رعاية أميركية ودعم أوروبي قوي حضّ على انتخابات حرة وصناديق انتخابات مكفولة سريتها.

” لا أحد كان يريد أن يمدّ يد العون إلى المتظاهرين العزّل”

أسهمت بنجاحها مؤامرات صغيرة، وإن بدت أقرب إلى الديبلوماسية النشطة، حثّت متظاهري ما دُعيَ بالثورات المخملية على عدم التراجع، رافقتها تصريحات ندّدت بمحاولات وأدها، شجّعت على مواصلة التظاهر. ولم تكن الحاجة إلى مؤامرة كبيرة إلا بالتدخُّل في الانقلاب الروماني، بالاشتراك مع الروس، لتخليص القارة الأوروبية من الشامة السوداء، حسبما أُطلق على نظام شاوشيسكو.

خصّ الغرب برعايته الديمقراطيات الوليدة، لأسباب أهمّها جنسيتها الأوروبية الفاقعة البياض، رغم ماضيها الشمولي الأحمر. إذا كانت قد ضلّت سبيلها إلى الشيوعية، فها هي عادت إلى رشدها صاغرة ترجو مساعدتها على الوقوف على قدميها ومواصلة الطريق إلى الديمقراطية الواعدة بالكثير. عموماً سوف تُترك لأقدارها، ولن تكون سوى التخبط، فبلاد باتت بلا أيديولوجية على حين غرة، تُركت للمتاجرين بالسياسة وعصابات الجريمة، على كل حال أخذت تشق طريقها بصعوبة في عالم بات أشبه بغابة.

ما جهله شبّان الاحتجاجات العربية أن الدول الغربية لم تكن في وارد دعم انتفاضة في قارّة أخرى، وفي منطقة كانوا على صراع معها، وإذا كانت تهمهم، فبسبب النفط، وكان مضموناً، وإذا كانوا سيدعمونها، فلا مقابل إلّا تلك السمعة المنافحة عن الديمقراطية، فلم تعن مواصلة التصريحات المضادة للدكتاتوريات العربية أكثر من التراجع التدريجي عن وعودهم، فلم يمدّوا يد العون إلى المتظاهرين العزّل، وفشلت في الحد الأدنى في وقف إطلاق النار على المدنيّين. فكان وأد الاحتجاجات بالقصف المدفعي وبالطائرات ومقتل مئات الآلاف، وتدمير المدن ونزوح الملايين.

وفي مثال على تلافي الفضيحة في سورية، نشطت القنوات الدبلوماسية السرية الغربية بالتستر عليها، فأرسلوا إلى النظام السوري تعهُّدات بعدم التدخُّل، علّه يطمئن، ويوقف حربه الوحشية، كان مردودها على الأرض موجات من المجازر، والقصف العشوائي. فتضاعفت الفضيحة، ما أحرج الغرب. فلجأوا إلى حاميه الرفيق الروسي: “إذا كنتم تريدون القضاء على الإرهاب، فعجّلوا بإنهائه”. فمررت الرسالة إلى الملالي بحكم أنهم شركاء النظام ويمونون عليه، فاختصرت بـ”أنهوا المهمّة بسرعة”، فهمها النظام كما ينبغي أن تفهم؛ فكانت الضربة الكيماوية.

في معرض دفاع الغرب عن جهله بما سيحصل، زعم أنه قصد الإرهابيّين، بينما ادّعى الملالي بأن الترجمة كانت حرفية. أمّا النظام السوري فتساءل: هل يوجد ما هو أسرع من الكيماوي؟ فأُحيل الأمر برمّته إلى خطأ في الترجمة.