ثمّةَ سيل يتدفّقُ من سِيَر حياة الكتّاب المشهورين أمثال شكسبير ودوستويفسكي وبروست وتولستوي… وأيضاً ذوي الشهرة المتواضعة، إضافة إلى عشرات الدراسات عنهم. فمثلاً يمكن القول إنه أصبح عن شكسبير مكتبة كاملة تحتوي آلاف الكتب بجميع اللغات الحية، وما زالت الدوافع للكتابة عنه وعن غيره متوافرة، فنتاجاتهم المتفرّدة تسمح بالمزيد، ما قد يوحي بأن جاذبية هذه السيَر مستمَدّة من الأدب لا من الحياة، غير أن البحث في حياة الكاتب وأسرار الكتابة تحرّض على التوغُّل فيهما، فالكاتب إنسان لافت تكشف حياتُه وكتاباتُه الهوّةَ الفاصلة، أو التشابك اللاحم بينهما، ما يأخذ القارئ إلى حقائق يتعرّف فيها إلى الغور العميق في النفس البشرية، سواءً في عظمتها أو انحطاطها.

وإذا كانت هناك تحفّظات تنشأ بين فترة وأخرى تنتقد هذه السيَر، فلأنه ليس من الإنصاف التطفُّلُ على خصوصيات الكاتب، ولو أنه رحل عن عالمنا، والتصرّفُ معه كأنما للأحياء السلطة الكاملة عليه بعد وفاته، تمكّنهم من استباحة حياته الشخصية واستعراض مباذل ربما لم تكن حقيقية، وإشاعتها ولو كانت ادّعاءً، فالكشف عنها قد يسبّب حرجاً له، لو كان حياً، وبما أنه ميت، لا يستطيع الدفاع عن سمعته، أو حتى تصحيح بعض المعلومات، ولا التذرّع بالخصوصية.

” بما أن الكاتب شخصية عامة، فإنه أصبح ملكاً للتاريخ وللأدب؟”

ماذا لو أن الكاتب ارتكب زلّة، تأذّى منها هو نفسه وتعنيه وحده، يريد التخلّص منها، هل يجوز أن تلاحقه إلى ما بعد موته؟

ليس من الغرابة طرح تساؤل يمنع الاعتداء على خصوصية الكاتب: لماذا لا يعامَل الكاتب الميت على أنه حي؟ أليس من حق الأحياء رفع دعوى ضد التشهير بهم، فلماذا لا يشمل ذلك الأموات أيضاً؟ أي لماذا للأحياء الحق في الخصوصية، وليس للموتى الحقّ نفسه؟
هل يكفي الردّ: بما أن الكاتب شخصية عامة، فإنه أصبح ملكاً للتاريخ وللأدب؟

يتذرّع كتّاب السيَر بأنهم لا يكتبون كما يعنّ لهم، فاطلاعهم على مذكّرات الكاتب ومراسلاته وحياته الخاصة مدخل يلقي أضواء كاشفة على أعماله، إضافة إلى قيمتها التاريخية ما يسوّغ نشرها، عدا أن في كتابة المذكّرات والرسائل نماذج من الصنعة الأدبية لا تختلف عن الروايات والقصص، لا يجوز الحجر عليها، وما دعوى الخصوصية إلا ابتكار سيئ لإضفاء الشرعية على الرقابة.

مع ذلك، ليس من المؤكّد مطلقاً أن المراسلات والمذكّرات تقول الحقيقة، فالكاتب لا يكتب مذكّراته لنفسه فقط، فهو يعرف أنه من المرجّح الاطلاع عليها ونشرها بعد وفاته، ولا يُستبعَد تعمّده إيراد الأكاذيب على أنها حقائق، أو تقديم صورة عنه تتوخّى المثالية، يتغلّب فيها على عوامل النقص لديه، ويتعمّد تقديم صورة زائفة عنه، طالما يعمل حساباً للنقاد والباحثين والقرّاء.

في الحقيقة، لا يمكن التأكّد من مصداقيته إلّا بوسائل بحث أكاديمية صارمة. وهذا يعني وضع الأديب على المشرحة، ما المشكلة، الكاتب إنسان من كوكبنا، ألسنا بحاجة إلى التعرّف على أنفسنا؟