تلفت حياة الكاتب الاهتمام لدى الكثير من القرّاء، كنوع من الفضول المثير، يحثّهم على التعرّف إلى أطوار حياته، وأخباره الخاصّة، وربّما ممارسة التلصّص عليه، وملاحقة الشائعات عنه، وما يدور حوله من أحاديث، بما ينحو أحياناً إلى الإشادة به، أو إسقاط الأهمية عنه، أو نفي ما يؤذي سمعته، وربما تصديق الأخبار السيّئة عنه، وكلّ منها لا يخلو من جاذبية.
هل للقارئ الحقّ في التعرف إلى الحياة الشخصية للكاتب؟ هناك وجهة نظر قوية، تقول إن الكاتب المشهور يغدو شخصية عامّة، لا خصوصية له، ولا غضاضة في السعي إلى التعرّف إليه، بل يحقّ للقارئ اقتحام عالمه، بعدما تابع كتاباته ردحاً من الزمن. هذا الحقّ في المعرفة، يمنحه إيّاه الكاتب نفسه، الذي شكّل في حياته عاملاً إيجابياً أو مؤنسِاً، وربّما بعث الأمل في داخله في لحظات سوداء. إنّه مدينٌ له، لقد منحه متعةً ولو كانت عابرة، أو ترك في نفسه أثراً جميلاً، كان انطباعاً طيّباً جعله يحتمل الحياة.
لو تقصّينا ما يمكن أن تحرّكه الكتب في داخل البشر، سواء سلباً أو إيجاباً، لَمَا تمكنّا من إحصائها أو توقّعها، ولو كانت عبارة عن أحاسيس أدّت إلى تراكمات متناقضة، إلى حدّ يمكن أن تعزّز نوايا حسَنة ومشاعر راقية، أو ارتكاب حماقات أو موبقات بدعوى التحرّر من المجتمع، أو تخلق في داخلنا مشاعر العظمة الفارغة، أو تبيح لنا قتل الناس على أنّهم لا يستحقّون الحياة. لذلك، تبدو الكتب الجنسية أكثرها إقبالاً بتحريضها الغرائز، خصوصاً أنّها مضادّة للملل، متخمة بالمتع الدنيوية.
بمجرّد نشره عمله الأوّل، يعرّض الكاتب حياته للكشف
ما يعود بنا إلى الكتّاب. إنّ أكثر ما يثير شهيّة القرّاء في عوالمهم الخفية، خصوصاً المشهورين منهم، هي نقائصُهم ومباذلهم وانحرافاتهم وجنونهم، وهي نزعات مبالغ بها أو غير حقيقية، إن لم تظهر على السطح، على ألّا تؤول على غير وجهها الحقيقي.
فلا ننسى أن ما أشيع عن جولات فلوبير وموباسان وبلزاك الليلية في عوالم العاهرات، وانتقالها إلى رواياتهم، أدّى في ذلك الوقت إلى ارتباط سمعة الأدب بالدعارة، لكن كان في الاطّلاع على هذه العوالم التعريف بعبودية العاهرات واستغلالهنّ، بسبب الفقر الذي يرزحن تحت وطأته.
بالمقابل، في ما لو أخذ القارئ بما يروّجه مريدو الكاتب عنه، لكان مثالاً فريداً للخِصال الحميدة، والمغامرات الجريئة، والإقدام والمخاطرة، أو للفكر العميق والتأمّل، وربّما للبؤس العظيم، أو العبقرية الفذّة، والتفرّد في الموهبة. وقد تكون لا أكثر من ممارسة الخديعة على القارئ، ليقتفي أثراً لا وجود له.
وعلى سبيل المثال، إنّ الحيوات اللافتة لبيكاسو ودالي، قد نُشر عنها الكثير جداً من العجائب، ما شكّل نبعاً زاخراً بالطرائف، عائدة إلى مغامراتهما في الفن التي أنتجت التكعيبية والسريالية والدادائية… وصنعت شهرتهما. ولم تكن حياة بيكاسو غرائبية كما بدت، إلّا لغرائبية ما أنتجَ من فن كسر القواعد المتعارف عليها، انعكس على ما لم توح به تصرفاته، وجاراها دالي بتصرّفات تعمّد بها الإدهاش ودلّت إليه كرسّام صاحب تصرفات غير عادية، لكنه كان فناناً حقيقياً، ومثله بيكاسو لم يكن تعدّد علاقاته وزيجاته النسائية إلّا انعكاساً لقلقه الدائم في بحثه عن أشكال وأساليب جديدة، حسب بعض النقّاد.
بالمناسبة، عاش الرائد نجيب محفوظ حياة روتينية محدودة من البيت إلى الوظيفة، ومقهى “ريش”، وسهرات العوام. من هذا العالم الصغير، كشف عن عالم كان بحجم مصر كلّها، عكَسَ الحياة الاجتماعية لعدّة أجيال من دون تهاويل شخصية. في الواقع، لم تكن حياة محفوظ الخاصّة مكشوفة، وكانت خفاياها مُلكاً له وحده، وما ادّعاء الاطّلاع عليها إلّا من قبيل التوقّعات لا أكثر.
ما كتبه كبار الكتّاب من روايات وغيرها، لا يكفي للكشف عنهم، لذلك تنشط كتب السير والمذكّرات. من جانب آخر، صحيحٌ أن الحياة الشخصية للكاتب تعنيه وحده، لكنها تعني القرّاء أيضاً، إذ بمجرّد ما نشر كتابه الأول، وكشف عن حيوات الآخرين، فقد عرّض حياته للكشف، والأدهى لأخطار التجسُّس والتلصُّص، لكنْ ما نصيبها من الحقيقة؟ لا بأس في القول إنّ الكاتب نفسه قد يجهلها، فهو يعيشها ولا يراها، ومن المبالغة الاعتقاد بأنّ الآخرين قد يعرفونها، لكنّهم يحاولون.
-
المصدر :
- العربي الجديد