السؤال الذي يحلو للصحافيّين والقرّاء طرحه على الروائي هو: ترى أي من رواياتك تشعر بأنّها الأقرب إليك؟ الجواب عادة أو المتوقَّع، كلّهم أولادي. إلا إذا كان لرواية ما مكانة خاصّة، ربّما لأنّها حازت جائزة، أو كانت سبب شهرته.

بعد تشبيه الروائي لأعماله بأنّها جميعها أولاده، تصبح صيغة السؤال، أيّهم أحبُّ إليك؟ وهو تعبير واردٌ، فالكاتب هو الذي أنجب كتبه، لن نسأل كيف؟ فلكلِّ شيخٍ طريقة، أمّا الولادة فحقيقة، وحسب تقدير الروائي، سواء كانوا أولاده أو مشتبهاً بأنّهم أولاده، قد يُدهش صاحب السؤال، ويدّعي أنَّ كتابه ينفصل عنه، في اللحظة التي يصبح معروضاً للبيع، بل أحياناً قبل ذلك، عندما يدفعه إلى المطبعة كي يتخلّص من عناد مراجعات شاقّة، ليس لها آخر، لو أنّه ترك العنان لقلمه أو لنفسه التي لا يرضيها مهما بذله فيه من جهد، لما وضع نقطة النهاية.

إذا اعتمدنا هذا الجواب، فالكتابُ يصبح لقيطاً، يستطيع من يشاء التقاطه، والتحاور معه، وأن يصبح أكثر صلة به من أبيه البيولوجي. والنقاد الكبار يقدّمون لنا مثالاً جيّداً من ناحية أنّهم قادرون على اكتشاف أسرار يقف الأب المسكين عاجزاً إزاءها، ربّما تعريته كما يشاؤون عن حقّ أو باطل.

قد يصبح الكتابُ لقيطاً يستطيع من يشاء التقاطه والتحاور معه

يشعر الكاتب بأنّه بات على الأقل مثل الآخرين بالنسبة لكتابه، بل ويشعر بالغربة عنه، غربة مؤلمة، فقد كتبه في زمنٍ مهما كان قريباً فقد أصبح مختلفاً، وانغمس فيه وعايشه إلى حد أنّه لا يتصوّر أنّه قد ينفصل عنه، فكيان الكِتاب من كيانه، وروحه من روحه. ومهما عانى منه، تربطه معه علاقة عاطفية، ذلك ما يُدعى عذاب الكلمات، طوال رحلة لا تقلّ عن محنة مستمرّة، تبرز دائماً في تساؤله إن كان نجح في إيصال ما يصعب إيصاله، خلال صلة تزداد حميميّة وخطراً، كلما قارب الكتاب على الخاتمة. ولا يمكن تدارك الفراق القادم، ونهاية باتت محتومة ولا مفرّ منها، فإذا به يذهب بعيداً عنه، ويصبح أسير الآخرين، لن يتجاوز غربته إلا بعد انخراطه في الكتاب التالي.

يواجه الكاتب هذا الاغتراب، مع أسئلة الصحافة عن كتابه، لكنّه بات في عالَمٍ مختلفٍ تماماً، يتعرّف إلى آخرين وحيوات مختلفة، ليس على يقين مما يقوله، ولن يكون دقيقاً، وربّما قال أي شيء، وغالباً لا يعبّر عنه، فيبالغ في إضفاء الأهمية على كتابه، أو يتكلّم عنه بما ينمُّ عن جهل به، وحده يدرك مأزقه.

هذا الكتاب – الطفل يشقُّ طريقة في عالَم القرّاء وحيداً، قد يصادفه الحظّ ويكبر، وإذا نضج فبمعزلٍ عن الكاتب. للكتابِ مسيرة حياة، قد لا تطول أكثر من أشهر، وكلّما امتدَّ به الأجل، يزهو به، وإن كان يعرف أنّه لم يعد مُلكاً له، ولو كان اسمه مدموغاً عليه، أشبه بصكّ ملكية، لا يوثّق به، ما دام الحبل السري قد انقطع، من يعيد إليه الزمن الذي أمضاه في كتابته، تلك كانت علاقته الحقيقية والعميقة التي ربطت بينهما، لكنّها أصبحت مجرّد ذكرى عزيزة، مهما كانت باهتة، ذكرى تمضه، ذكرى يفتقد إليها، لكن لا بدَّ من الادعاء.

هذه العلاقة المُعقّدة بين الروائي والرواية ستكون مأساوية، عندما ينظر إلى مجموعة رواياته، ويدرك أنها كانت حياته التي عاشها ولم يعشها، عسى ألا تكون مجرد أوراق.