يتعارض قيام روسيا بدور وسيط سلام مع الدور الذي لعبته طوال السنوات الأربع الماضية، فهي لم تقف إلى جانب النظام مؤيدة بالمحافل الدولية فحسب، بل كانت طرفا فعالاً إلى جانبه في المقتلة السورية؛ ساندته بالسلاح والخبرات الميدانية، ما زالت حتى اليوم البواخر الروسية تحمل الذخيرة والعتاد إلى سورية. ما يضع دور وساطة الخير في قالب الهزل لا الجد، وإحلال وساطة الشر في مكانها الصحيح، هذا إذا شئنا الاستئناس بثنائية الخير والشر. الدول لا تغير مواقفها إلا تبعاً لمصالحها، إذا لن نفتش عن النوايا الحسنة، طالما أن ما يحكم الدول هو النوايا السيئة. لذلك معرفة السبب في تقدم روسيا بهذه المبادرة، يطلعنا على حدودها وأبعادها ومدى جديتها. فمواقفها لم تتغير، وهي المطلعة على استراتيجية النظام ومطالبات المعارضة. واليوم إذا كانت قد استطاعت إجراء توافق بينهما على مرحلة البدء، فالأهم أن تكون تصوراتها عن اجراء توافق على النهاية معقولاً، إذا كان، فمن الممكن تذليل ما بينهما. غير أن ما يلوح لا يحبذ هذا التفاؤل.

تخول روسيا نفسها بحكم ادارتها للمبادرة دعوة إيران إلى حضور طاولة الحوار، لأن لها حصة في الترتيبات النهائية، يجب الإقرار بها من المعارضة، ما يسهل عمليات التشاور والتفاهم، كما لتذكير النظام بتبعات التنازل المرفوضة، بجعلها مقبولة. هذه الاحتمالات وغيرها، لا تعدم الصواب مجتمعة من دون استثناء، فإيران استثمرت في الأزمة اقتصادياً وميدانياً ومذهبياً، ما يرشحها لتكون أبرز الخاسرين أو الرابحين.

بالنسبة إلى الصمت الأوربي والأمريكي، فالخلاص من الأزمة السورية المتعبة والشاقة، وهو أمر بعيد الوقوع، إذ “داعش” بالمرصاد، ثم أن التطمينات الروسية غير مطمئنة، لا يعول عليها سواء أفضت إلى حل أو لاحل، في جميع الأحوال، أصدقاء الشعب السوري سيعودون إلى اجنداتهم، فأثمان التأخير والمراوغة والمهل والتأجيلات، مدفوعة أثمانها من دماء الشعب السوري. أما التركي، فلا يثق بالمبادرة، يعمل منفرداً في الشمال، بما يحفظ له المساومة والمناورة في المستقبل القريب والبعيد.

لا يجهل الأطراف، وما أكثرهم، أن النظام عقدة الحوار، وما هو مطلوب فعلياً مرفوض منه، وهو وجود بديل له مقبول من كافة الفرقاء. فالصلف الذي تحلى به، لا تسنده سوى الدعايات الكاذبة، والادعاء بمقاربته القضاء على العصابات المسلحة، والسيطرة على المناطق المحررة مهما امتد الزمن، مع أن كل ما بوسعه فعله هو التقدم خطوة هنا والتراجع خطوة هناك، بمساعدة دولتين تسعيان لبقائه بأقل الخسائر، ريثما يقبل بواقع الحال المؤجل إلى حين، لكن ليس إلى الأبد الذي اعتاد عليه النظام.

سورية رهينة نفوذ الروس والايرانيين، وحماقة النظام أنه كان قادراً على توفير كل هذه المآسي على السوريين، لو أنه أصغى إلى عذاباتهم، حين كانت لديه الفرصة لمراعاة كرامتهم التي أهدرتها على الدوام أجهزة المخابرات، وكان الأدرى بها. المؤسف أن كل ما يأتي وسيأتي متأخر.

يعتقد الروس بابتكارهم معارضة الداخل أنها ستكون الحليف الأقوى لمبادرتهم، ومع أنه من أسهل الأمور الاطمئنان إلى تعاونها، لكن قبولها بما يطرح لا يعني تقدماً، سواء بها أو من دونها، فالمبادرة لن تتعدى مرحلة الصفر.

الاعتماد الوحيد للنجاح هو على الشعب المنكوب، لكن هذا الشعب ليس على قائمة المدعوين إلى الحوار، فهو لم يؤخذ باعتبارهم. إن ما يعانيه السوريون في الداخل والخارج، لا يشاركهم فيه رجالات النظام وأعوانهم، ولا معارضة الداخل والخارج. النظام العتيد ترك لجانه الشعبية بقيادة البوط العسكري ينهبونهم في بلداتهم وقراهم، وعلى الحواجز، ولم يوفر وسائله بتجويعهم. كما أن المعارضون، لم يحرصوا عليه، بل كانوا الأحرص على أنفسهم ومواقعهم ورواتبهم واقاماتهم، وتأمين اللجوء إلى الدول الأجنبية، حتى أن الكارثة المحيقة بمن يمثلونهم لم تدفعهم إلى اقصاء خلافاتهم جانباً والتوحد.

مأساة السوريين أيضاً هي السوريون أنفسهم، إذا أن النظام، جعلهم يتعلمون أن الاستئثار بالسلطة هو سبب مصائبهم. وما سوف يجري في موسكو، حوار في ظلام، وهو ظلام يشمل الشعب السوري الذي لا يمثله أحد في شأن يتعلق بمصيره، وإن كان يقدم أبناءه للموت من أجل بصيص من النور.