ثلاث نساء: أمّ جورج، رحاب، وريما؛ يحرّكن حكاية يوم الحساب لفوّاز حداد. صحيح أنّ الرّواية على لسان حسّان، الذي يتلطّى باسم أحد الشّهداء “أنا شخص ميت، في حماية شهيد” كي يكسب قليلاً من الوقت قبل أن يهاجر من دمشق التي يحيا فيها ميتاً، لكنّنا نعرف أنّه حبيب ريما، علاقتهما متوتّرة مؤخّراً لأنّه قرّر السّفر، وهي متمسّكة بالعيش في وطنها، تساعد ما أمكنها أبناءه على تحمّل مآسيه، تؤمن بشعارات الوطنيّة والنّضال والعيش المشترك، ولا تبالي بقطع علاقتها به طالما أنّه خسر معركة صموده أمام ألمه “ريما صديقتي، التي عشنا معاً أحداث الثورة، وتشاركنا فيها، وكنا في طريقنا إلى الزواج، لم تشاركني نزوعي إلى الهجرة… أنا سأرحل وهي ستبقى عالقة في ثورة، لم يبق منها سوى ضحايا ولاجئين”.[1] ومنذ اللحظة التي يظهر اسم ريما على مسرح الأحداث، تبدأ الرّواية في النّزوع نحو الثّنائيّات. ثنائيّات تنجدل أو تتباعد في اتساق يتواصل حتّى النّهاية المفتوحة.
الحرب في سوريا هي الفضاء العام، يغلّف الزّمان والمكان ويطبع الشّخصيّات متحكماً في نشّأة تصرّفاتها ومآلاتها، في قراراتها وأحكامها ونظرتها إلى ذاتها وإلى الإيمان والإلحاد، إلى الوجود أو الموت أو العدم. أمّا تلك الثّنائيّات فهي أحياناً ثنائيّات بين أشخاص: الأب جبرائيل وأم جورج، رحاب وجورج، ريما وحسّان، طوني حصبوني والأب جبرائيل، حسّان وصديقه سومر. وأحياناً تكون بين أسماء لشخصيّات في الرّواية وصفات لشخصيّات تلعب دوراً في وصف الحرب وتأزّماتها وتعقيداتها وفسادها من مثل: حصبوني وزوجات المسؤولين الكبار، الأب والمسؤول الضّخم، الأب وحملة الملفّات، الأب والرّجل الكاريزميّ مسؤول الأقليّات، ثمّ العقيد النّاطق الرّسمي باسم المخابرات. كما أنّ هناك ثنائيّات تستند إليها الرّواية تعدّ عصباً في بنيتها: الخير والشّر، العدل والظّلم، الجنّة والنّار، الإيمان والإلحاد، الإسلام والمسيحيّة، الأكثريّة والأقليّة، الأنا الآخر، الآن والآتي، العبثي والحتميّ، الدينيّ والدنيويّ، الممكن والحاصل والموت والحياة.
يحرّك الأحداث مجيء رحاب، أستاذة جامعيّة، فرنسيّة الحاضر سوريّة الأصل، تزور دمشق بحثاً عن أحد طلّابها الذي اختفى منذ سنوات. يدلّها على حسّان أحد الأصدقاء، لا يشعر برغبة في مساعدتها، ويحاول التّملّص من تلك المهمّة التي ورّطه فيها صديقه من دون أن يخبره أيّة تفاصيل قد تعينه على اتخاذ قرار رفض العون أو قبوله. مسكونة بحبّ الأنثى تخاطر رحاب بالمجيء إلى سوريا وهي تغلي في أتون حرب تطحن كلّ شيء. تتخفّى خلف ادعائها التعاطف مع أمّ الطالب جورج أيقوني، التي قصدتها لتعرف عن أخباره. كان جورج يدرس في إحدى جامعات فرنسا، وحين اندلعت الثّورة تحمّس للمشاركة فسافر إلى سوريا، ثمّ انقطعت أخباره تماماً. رحاب التي كانت تدرّسه، والتي تكبره بأعوام، أسلمت له نفسها ليلة سفره، أحبّته وتركته يحبّها من دون قيود، ثمّ حين سافر أبعدته عنها كي يعرف الحبّ مع من هي في مثل سنّه. هي لم تبح بهذا الأمر الخاصّ إلّا لريما، امرأة مثلها وعاشقة كذلك. حكت لها ذلك لأنّ ريما شكّكت في بحثها عن الشّاب وإصرارها فيما بعد على أن توثّق معاناة السوريين من خلال مقابلات تجريها معهم، اكتشفت من خلالها كم يرغبون في النّسيان، كما اكتشفت أنّها عادت إلى وطن لم تكن تجمعها به غير هويّة جاء بها والدها حين هاجر إلى فرنسا، ولم تعرف عنها شيئاً حتّى عادت تبحث عن جورج، فوجدت نفسها “ثمّة لحظات تراءت لي تصوّرات عن أنّ وطناً آخر يسري في دمي/ لاحظتُ أنني كنت أتخفف من فرنسيتي على أمل الاحتفاظ به، طالباً وإبناً وصديقاً/ في دمشق الذي لم أتوقعه هو أنّني أصبحت سوريّة”.[2]
تحاول أمّ جورج استعطاف الأب جبرائيل، مسؤول الرّعيّة، تتحدّاه وتستحلفه، تفعل كلّ ما في وسع أمّ من أجل ابنها. لا يعد الأب جبرائيل ابنة الكنيسة المخلصة بأيّ شيء، لكنّه يباشر العمل على تخليص جورج فهو في النّهاية أحد رعاياه وإن كان قد التحق بثورة المسلمين. متكئاً إلى براغماتيّة أتقنها مما علّمته الأيّام، يبدأ الأب جبرائيل رحلة بحث عن جورج، فيستعين بحصبوني تاجر الذّهب، الذي يعرفه تباعاً إلى المسؤول الضّخم، الموعود بأن يستعيد مكانته بمقابلة موفود إحدى القنوات الأوروبيّة –يظنّه الأب جبرائيل- وبأحد مسؤولي الدّائرة الضّيقة في القصر الجمهوريّ، ثمّ بأحد حملة الملفّات وبعدها بمسؤول الأقليّات. تكشف تلك اللقاءات المدبّرة بين الأب جبرائيل وأولئك الذين تستند إليهم الدّولة المخاباراتيّة الطّابع، عن أسرار الحكم وخفايا النّظام وأساليبه في بسط هيمنته وعن فساده وفساد الطّبقة التي تحيط به كما عن جوانب متعلّقة بالسّياسة والتّاريخ والديّن، وحتّى عن بعض الطّبائع والغرائز البشريّة التي لا يستثنى منها رجل دين في مكانة الأب جبرائيل.
“لمَ لا يكون حساب على الأرض؟” سؤال تطرحه أمّ جورج بعد أن تكتشف استشهاد ابنها بعد سنوات من اختفائه. يأخذنا هذا التّساؤل لأمّ ثكلى إلى بحث المظلوم عن عدالة مستحقّة، عن ضرورة أن يقع العدل هنا والآن وبشروط المسحوقين وأيديهم. أمّ جورج التي تساوي نفسها بالعذراء وهي تحرج الأب جبرائيل “هي أمّ وأنا أم” يسكنها همّ من نوع آخر بعد أن تصمّم على مشاهدة فيديو استشهاد ابنها، وتراه يرفع سبّابته ويردّد الشهادة، همّ إيمانيّ يريد أن يضمن لولدها الجنّة: فهل يجوز أن يدفن بين المسلمين؟
ريما التي تتحدّى حبيبها الرّاوي، ترفض الهروب من الوطن لأنّ إيمانها بقيامته أكبر من حجم الدّمار فيه، تساعد رحاب في مشروعها وتدعمها بالأمل والمعارف واللقاءات، تطرح الأسئلة المحيّرة والمستفزّة، تعرف مكان سومر الذي يكشف عن مصير جورج، يجعلها حدّاد مختلفة، أو فلنقل امرأة من طراز مشتهى: تتحدّى نرجسيّة الرّجل، تقفز فوق حواجز خوف النّساء الباقيات من سوء السّمعة إذا ما ارتبطت بعلاقة مفتوحة وقرّرت ألّا تتزوّج منه، وهي في الوقت نفسه تكسر صورة المرأة التي تلاحق الرّجل بغرض الزّواج مهما اختلفت أحلامها عن أحلامه ومخططاته، يجعلها فوّاز أيقونة للتّغيير المرجوّ وتمثّل الحبّ اللامشروط للنّفس والآخر وهي تختصر كلّ شيء في قولها له في الفصل الأخير: “إذا كان الوطن وهماً، فالحبّ وهم”.[3]
في الرّواية الصّادرة عن دار رياض الرّيس 2021، تشعر وأنت تقرأ صفحاتها الـ265 أنّك تقرأ فصلاً جديداً من رواية ممتّدة يكتبها فوّاز حدّاد، يكرّس فيها حقيقة ما يحصل في سوريا، يشبعه تفاصيل مرهقة ومثقلة للنّصّ أحياناً، لكنّها مهمّة بالنّسبة إلى توثيق الحقيقة من النّاس وعنهم، أمام رواية النّظام ومحاولاته تشويه الحقيقة، فهذه الرّواية تشبه ما قام به في روايات أسبق كـ”السوريّون الأعداء وتفسير اللاشيء” اللتين صدرتا عن دار الرّيّس عامي 2014 و2020، يستعين فيها بلغة تلجأ إلى فصحنة العاميّ أحياناً، حيث يستخدم بعض المفردات الفصحى ذات الاستعمال العاميّ العاديّ، يشرّح الكاتب الطّبقة الحاكمة، يكشف تلاعبها ومؤامراتها وضآلة كلّ شيء أمام استفادتها الماديّة، لا يكترثون إلّا للمال، يعبدون المناصب والرّشاوى والمناقصات، يغرقون الدّولة في بحر من الصّفقات التي تطول بسببها الحرب ويموت فداءها من يموت من السّوريين، واقع يتعاظم فساده إلى حدّ يشعر القارئ بالاختناق ويفهمه لماذا يلحّ وعي فوّاز حدّاد ومن العنوان “يوم الحساب” على التّوعد لأولئك الخونة والقتلة والمجرمين، بجرأة تتناول الرّئيس وسلفه من دون مواربة أو خوف.
تحاول الرّواية في جانب من جوانبها تفسير ما يجعل البشر يتقاتلون ويتنافرون ويتعادون من أجله، فلا تجد سبيلاً للنيل منه سوى السّخرية على لسان الرّاوي من كلّ شيء: الأشكال والأحجام والنّوايا والمقدّسات والمسموح والمحظور، خطب الجمعة وعظات الآحاد، تشابه كروش رجال الدّين ورجال النّظام وخفّة العقول المتشابهة.
تختصر النّساء في الرّواية الكثير عن الحياة: فتسأل أمّ جورج عن الجنّة والنّار، عن عدل الله وانتصاره للمؤمنين، تشكّك بأسئلتها في الموروث والمسلّم به ثمّ تترك لابنها أن يرقد بسلام في مقابر المسلمين وهنا يمكن أن نسأل أحد أسئلة الوعي: هل إذا كان حساب على الأرض تصبح هي الجنّة وهي النّار؟ وتحكي رحاب عن تبدّل العالم اليوم، حيث النّزوع إلى إلغاء حدود الأوطان الجغرافيّة، وانصهار الأجناس والأعراق والمصائر “أنّ كوكب الأرض في طريقه إلى أن يصبح عالماً بلا أوطان. فلماذا الوطن؟”[4] وتنهي ريما خطابها قائلة: “إذا كان الوطن وهماً فالحبّ وهم”.
لم يقل فوّاز حدّاد بشكل صريح إنه لا جنّة ولا نار إلّا في القلب، لكنّه حين ألمح إلى انتفاء الوطن بما هو حبّ أبديّ وتعلّق روحيّ غير مفهوم بين الأرض والإنسان، ينفي بالضّرورة وعي الأنا للحظة وجودها، وتالياً يحضر إلحاح الوعي أنّ وجوده مشروط بقوّة مستمدّة من الحبّ، هو ساعتها يحرّك الوعي نحو حبّ نوعيّ تعرفه النّساء وتحتاجه الأوطان… الحبّ اللامشروط.