لا يمكن النظر إلى الحضارة في أيامنا هذه من دون إغفال الأساليب المتّبعة في استبعاد بعض الشعوب منها بطريقة لبقة، وأحياناً بطريقة فظّة. فالحضارة تعني أن البشرية تتّمتع بمنجزات عصرها المادية والفكرية.

أما الشعوب “المتخلّفة”، فغير مهيأة إلى هذه النقلة، لعدم مواكبتها التاريخ. قيل الكثير عن أن العرب خرجوا منه، لكنهم في الواقع حاولوا مراراً الدخول إليه، وكان هناك من يبذل المساعي لاستبعادهم منه. “الربيع العربي” كان المحاولة الأولى في القرن الحادي والعشرين، طبعاً ستتبعه أخرى، وربما سينجح هذا الربيع الذي لم يأفل تماماً بعد، في إحراز بعض الأهداف.

بالنظر مثلاً إلى مسار الثورة السورية، وموقف الغرب الذي أنف من أن يصفها بالثورة أو الانتفاضة؛ لأن الثورات والانتفاضات تمُتّ بصلة إلى عالم كارل ماركس ولينين وروزا لوكسمبورغ الأوروبيين، إذ هي بالنسبة إليهم أزمة ينبغي أن تجد حلاً لها، بحكم موقعها الجغرافي وعلاقتها ببلدان الجوار، لا سيما إيران، ومؤخراً روسيا، لا على أنها قضية بشر وحرية وانتفاضة على الطغيان، وتوق إلى الديمقراطية، تلك أماني تفوق استعداد شعب كالشعب السوري، ولو أنها من الحقوق المجمع عليها في قاعات الأمم المتحدة، ويتداولها المجتمع الدولي بأريحية، مع بضع منظمات ناشطة في هذا المجال.

على أرض الواقع، يحمل السؤال نبرة استغراب: ما قصة هذه الشعوب الطامحة إلى أقصى ما بلغه الغرب في مسيرته الظافرة طالما أنها لا تفقه ما ترغب فيه، ولا ما تقاتل من أجله، وتموت من جرّاء المطالبة به، وما التبعات المترتبة على اختياراتها، طالما أفضل وضع لها هو الدولة الشمولية، والدليل ما حصل بشعبَيْ العراق وليبيا بعد صدام حسين والقذافي؟ لذلك ينبغي إنقاذ سورية من رحيل نظامها الدكتاتوري.

العالم “المتقدّم”، يفكّر بالحضارة على أنها منتدى لا يسمح لغير المشتركين بارتياده، ما يحفظ حقوقهم الاستعلائية والعنصرية، ويمنحها المشروعية، ما يليق بهم لا يليق بغيرهم. يرغبون في الاعتقاد أنه لا يحق للعالم العربي في ربيعه المطالبة بديمقراطية هي من نتاج الحضارة الغربية، وكأنها ليست حضارة إنسانية لجميع البشر.

وإذا سمحوا باللغو بها، فللتذكير بالفارق بين الشرق والغرب، والتعريج على فضائح الإسلام والمسلمين، والتعريض بالاستعمالات الإرهابية للثروة، والبرهنة على أهلية هذه الشعوب للفوضى، فها هو “الربيع” مرّ وخلّف وراءه الدماء والكوارث.

على الرغم من ضراوة هذا النقد وانحيازه ضد الحرية، علينا ألا ننسى أن علاقات الغرب بالاستبداد العربي أقوى من علاقاته مع الشعوب المضطهدة، ودائماً كان انتفاعهم من بؤسها يعطِّل تقدّمها. التعامل مع دكتاتور فرد أرقى وأضمن من التعامل مع شعوب إذا كان لها نصيب من الحضارة. ثم إنها شعوب غامضة، تصلّي وتصوم وتعبد إلها بحد ذاته مشكلة، فهو شبيه بالإله الذي تمرّدوا عليه في تاريخهم التنويري، وقتلوا من المؤمنين به عدة ملايين.