أصيب الحراك السياسي اليساري بانتكاسة مع تصاعد المد الإسلامي في بداية عقد السبعينيات نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط حائط برلين وما تلاه من تدشين نظريات نهاية التاريخ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، عالم أحادي القطبية تتبعه صامويل هانتيجتون بصدام الحضارات٬ فيه استبدلت أمريكا دول محور الشر وتشمل دول العالم الإسلامي والصين وإيران كعدو للحضارة الأمريكية بديلا عن الاتحاد السوفيتي العدو التقليدي منذ الحرب الباردة.
وفي رواية “جنود الله” للكاتب السوري فواز حداد٬ والصادرة عام 2010 عن دار رياض الريس٬ يستعرض الكاتب انهزام التيار اليساري الماركسي أمام المد اليميني المتأسلم المسلح والذي استعار أدوات الفكر الماركسي اليساري في عدائه للأنظمة: “كان السؤال اللينيني الشهير: ما العمل؟ قد أجاب عنه الشيوخ المعممون يا للمفاجأة تبادلنا الأدوار على حين غرة أصبحنا نحن التقدميين عالقين في العصر الجاهلي بينما القادمون الجدد عادوا من هجرتهم مظفرين ليباشروا نضالهم بتحطيم أصنام المادية والإلحاد وإعلان الإسلام هو الحل٬ والقرآن هو الدستور”.
قسم الكاتب روايته إلي ثلاثة أقسام “طريق أخر إلي الجنة” وفيه على طريقة الفلاش باك يسرد الراوي عودته من بغداد متخفيا داخل صندوق سيارة بيك آب بيضاء عتيقة، مجهزة بأدوات ومواد إسعافية حيث تجتاز السيارة الشوارع مغادرة بغداد في طريقها إلي الحدود السورية هو أبٌ فاقد الذاكرة عائدٌ من رحلة البحث عن ابنه الشاب “سامر” الذي التحق بجماعة القاعدة في العراق، التي انضم إليها أثناء دراسته في الجامعة العربية ببيروت وتردده على المساجد القريبة من مخيمات الفلسطينيين حيث تم تجنيده ورصدته المخابرات اللبنانية والسورية بعدما أطلق لحيته وأرتدي اللباس الأفغاني.
يحاول الأب الاتصال بابنه ليمنعه من السفر إلى العراق يلحقه إلى قرية “الدواسة” حيث يشهد مأتم أحد الشباب الجهاديين وأسرته وأصدقائه يغنون له الأناشيد كونه عريس السماء يزف إلى الحور العين: “أسامة بن لادن يا مرعب أمريكا.. بقوة الإيمان وسلاح أمريكا.. يا قاعدي سمعنا الأربي جي.. سيلنا الدم فجرنا الموقع على الأمن”. لكنه يفشل فيضطر للسفر إلى بغداد بتنسيق مع الجهات الأمريكية.
وفي بغداد يستقبله الميجور”ريتشارد ميللر”ممثل الجيش الأمريكي في مراقبة تنفيذ العقود الخاصة بشركة “ميترا كورب” في إشارة إلى شركة بلاك ووتر وما تضمه من مرتزقة كان احتلال العراق بالنسبة لهم فرصة للثراء السريع: “نحن لا نحقق تقدما. العراق كعكة كبيرة كل منهم يريد أن يأخذ نهشة منها٬ مئات الملايين من الدولارات تبخرت في السجلات٬ على ماذا أنفقت؟ المبالغ تسلم دون تسجيل لماذا؟ لأن الإجراءات المحاسبية الأصولية ليست واردة في زمن الحرب وهكذا لا يعرف من قبض عشرة آلاف أو من قبض خمسمائة ألف”.
يقيم الأب الذي تعمد الكاتب ألا يعرفه وإبقائه مجهلا طوال الرواية داخل المنطقة الخضراء الخاصة بالقوات الأمريكية وتعتبر دولة داخل الدولة العراقية وعبر الأحداث يكشف الرواي عن الأفكار الأصولية المتطرفة سواء لدي المتأسلمين أو التيار اليميني المسيحي المؤمن بأن عودة المسيح لن تبدأ إلا بانتصارجيوش الخير الأمريكان والأوروربيين والإسرائيليين في مواجهة جيوش الشر العرب والروس والصنييون.
وذكرت الخطة الإلهية التي جاءت على لسان القس المتطرف “باركلي” في محاضراته ومنشوراته للجنود الأمريكيين في العراق: “ليس النزاع على أرض ولا علي النفط ولا على إعادة تشكيل الشرق الأوسط أو إحلال الديمقراطية بل على شيء لا يمكن التفاهم ولا التفاوض حوله إنه القضاء على الشر بالتخلص من المسلمين٬ عهدنا مع الرب يخولنا إفنائهم عهد لن ننكث عنه مادام الله معنا”. ولا يخفي اعتناق جورج بوش الابن لهذا المذهب واحتلاله للعراق 2003 بحجة امتلاك صدام حسين أسلحة نووية٬ وهو الخطاب ذاته الذي يعتنقه الأصوليين الإسلاميين: “نحن نخوض معارك الله على الأرض، معارك الحق والإيمان، وإذا كنا نضحِّي بأرواحنا، فلأن أمرها يعود إليه، هو خلقها وإليه مرجعها وعليه حسابها. نحن جنود الله، وموعدنا الجنة إن شاء الله”.
ولكن كما أن ليس كل المسلمين يعتنقون الأفكار المتطرفة نجد بين الجنود الأمريكان من يستهجن أفكار القس باركلي ويرفضها بل وحاول الميجور ميللر التحقيق مع القس وضربه حتي اعترف أنه يوزع المنشورات المتطرفة على الجنود ودبر حادثة قصف بيت عائلة مدنية راح ضحيتها عشرة أفراد بلا ذنب سوي أنهم عراقيين.
وأيضا من خلال الحوارات بين والد سامر والميجور ميللر نري أن هموم الاثنين واحدة فمسئولية الأب الذي جاء وراء ابنه ليعيده عن أفكاره المتطرفة لم يختلف عن ميللر الأمريكي وشعوره بالتقصير نحو أولاده وعائلته، وإن كان الأخير لا يفهم لماذا يفجر بعض الأشخاص أنفسهم وينتحرون وأنه لا توجد قضية أو أية مبادئ تستحق هذا الانتحار إلا أنه ينتحر في نهاية الرواية حينما يفشل في وقف القس باركلي عن تجاوزاته في حق المدنيين العراقيين.
بينما في القسم الثاني من الرواية تحت عنوان “رسائل من بغداد” تنسال ذاكرة الأب الذي اختار النسيان ليهرب من الفظائع التي شهدها أثناء بحثه عن ابنه لكن في رسائله إلى صديقته “سناء” ينقل لها حرائق بغداد الانفجارات العشوائية التي لا تفرق بين مدنيين أو مسلحين٬ والمجازر الطائفية بين الشيعة والسنة من خلال المستشفيات حيث تضج قاعاتها بصرخات رجال ونساء نجوا من الموت السريع بالقنابل والصواريخ الأمريكية ويعانون موتا بطيئا جراحهم تنزف دما وقيحا٬ مصابون بترت الشظايا لهم ساقا أو يدا وأطفال خلفت لهم حروقا من الدرجة الأولي والثانية ومنهم من كان غائبا عن الوعي يحتضر بصمت.
يفشل الأب في الاتصال بتنظيم القاعدة فيعرض نفسه للاختطاف على يد واحد من”العلاس”وهو جاسوس يجمع معلومات عن الأجانب الغرباء عن بغداد ويبيعها للجماعات الإرهابية المختلفة في العراق.
وفي الجزء الثالث والأخير “حافة الجحيم” يختطف والد سامر يعذبه خاطفيه لكنهم يحتفظون بحياته ليباع لجهة ثانية كانت تابعة “لأبو مصعب الزرقاوي” الذي يحسن ضيافته لخاطر ابنه سامر الذي أصبح اسمه “عبدالله السوري” وإليه أوكلت مهمة قيادة تنظيم القاعدة في الشام.
رصد الراوي من خلال حواراته مع الزرقاوي عن تزامن انتشار التطرف الديني والجماعات الإسلامية مع التواجد الأمريكي في العراق والعقائد التي تبنى عليها هذه الجماعات من أول تحطيم المواقع الأثرية وإقامة الحدود من قطع يد السارق ورجم الزانية والزاني إلى إلقاء المثليين الجنسيين من فوق أسطح البيوت.
كما كشفت حوارات الأب مع أبو مصعب الزرقاوي وابنه عن عقيدة الجماعات المتطرفة الفاسدة وإيمانهم بأنهم وكلاء الله وجنوده على الأرض، سوف يرسلون الناس إلى جنته في السماء كما حدث مع “أبو عبادة” الشاب الجزائري الذي عاد عن أفكاره المتطرفة وأراد المغادرة إلي سوريا لاستئناف دراسته وحياته لكن عبدالله السوري ينجح في إقناعه بعملية إنتحارية حرص أبو عبادة على أن لا يصيب أحدا من المدنيين وفجر نفسه في الساحة الخالية.
استشرفت الرواية ظهور تنظيم داعش الإرهابي في سوريا من خلال التبجيل المبالغ فيه لسامر والإصرار على كونه أمير التنظيم في بلاد الشام وحتي عندما تقصف القوات الأمريكية موقعه يقتل جميع رفاقه ما عدا هو ينجح في الفرار إلى الأحراش حيث يختتم الراوي الأحداث بنبؤة انتقال عبدالله السوري إلى بلده وتأسيسه لجيش النصرة في سوريا وليحقق نبؤات القس الأمريكي الأصولي: “أن ما جرى في العراق مقدمة لتحقيق النبوءة عن دمشق، هذه المدينة ستدمر قريبا كن على ثقة، ستصبح كومة من ركام والغلبة ستكون لجيوش الله”.
عالج فواز حداد في روايته العلاقة الملتبسة دومًا بين الدين، بما هو تعاليم سماوية آلهية توحيدية، وبين رجاله ووكلائه أو الناطقين باسمه المفتئتين على حقه في حساب وعقاب خلقه وجعلوا من أنفسهم جنوده وكأنه قائد عسكري يحتاج إلى جنود أو حروب مقدسة صليبية تارة وجهادية تارة أخري!
-
المصدر :
- أمان