صدرت عن شركة رياض الريس للكتب والنشر – بيروت، رواية “جمهورية الظلام” للروائي السوري فواز حداد. وهنا مقطع من الفصل الثاني، ننشره بالاتفاق مع الناشر..

تسييس الجنس ـ تجنيس السياسة
قبل ساعات قليلة، في الطرف الآخر، من قلب العاصمة دمشق، على مقربة من مجلس الشعب، كان الشاعر المخبر مسعود سعدي، في طريقه كما اعتاد يوميًّا، إلى مقهى “الروضة”، المكان المثالي ليتبادل الأدباء الحديث عن همومهم، والتذمر من متاعب الحياة أكثر من متاعب المهنة، والشكوى مما يعانونه من مشاقّ ترهق إبداعاتهم بصغائر الأمور، بينما الأمور الكبيرة تجري بمعزل عنهم.

لا يجهل معظمهم أنّ المقهى ليس آمنًا، وإن اتخذوا حذرهم من المخبر الشاعر، لن يستشفّ من نمائمهم المحببة توجهات مشبوهة، ولو حاول نصب الشراك، للإيقاع بهم. كانوا متنبهين، حتى لو كانت خلافاتهم شخصية أو سياسية، يكسونها بطابع أدبي بريء. بينما غالبًا كانت مشاكلهم عاطفية، وبلا سبب سوى الضجر، فهم يعشقون بمناسبة ومن دون مناسبة، بلا وصل ولا وصال، فالغرام شائك تحت القصف، بينما ادعاؤه لذيذ، يمنح جلساتهم نكهة متحللة من الحياء، تسللت إلى كتاباتهم، وكانت مستهجنة، لكن الحداثة بصورتها الإباحية المتخيلة تحضّ عليها.

عندما كانت المظاهرات تهدر في الشوارع، تورطت علاقاتهم العاطفية بعد تفاقم الاحتجاجات بالانقسام السياسي بين المعارضة والموالاة، وأسوأ ما حدث، أن يعشق أديب معارض، أديبة موالية وبالعكس، فاتخذ النقاش طابع الوداد والتشنج، واكتسى الغرام بالنكد والمكايدة، ما أدى إلى خصام تخللته مساومات على الانتقال من خندق إلى خندق، لم يكن إلا مغادرة طاولة معارضة إلى طاولة موالية، أو بالعكس.

بداية، أجمع الأدباء على تأييد المظاهرات في أحاديثهم، انسجامًا مع تقدميتهم التي أملت عليهم هذا الموقف، فهم ضد الدولة مهما فعلت، وإلا كانوا رجعيين وأذنابًا للسلطة، فالنظام بدا على وشك السقوط. بعد بضعة أشهر، بدا النظام ثابتًا لا يتزعزع، يقصف المدن والأرياف، بعدما أنجده الإيرانيون بالمليشيات، وفيما بعد الروس بالفيتوات في مجلس الأمن. فأظهر الموالون موالاتهم للنظام، بعدما كانوا يدعون أنهم مع الشعب، تبين لهم حسب قولهم أنّ المظاهرات كانت بتحريض من الخارج. أما الذين ساندوا الربيع في أطواره الصاعدة والهابطة، فأصواتهم التي ارتفعت عاليًا، انخفضت وباتوا يتكلمون همسًا، وإن كان النزاع يحتدم بينهما، ويتجلى بجدالات حامية الوطيس في الدفاع عن الدكتاتورية لإنعامها على الشعب بالاستقرار مع عدم التخلي عن المقاومة والممانعة، وتحجج الطرف الآخر بأن الاستقرار كان بالقوة تحت التهديد بالسجن، لتأمين مناخ من الصمت وتعميم الخنوع.

منذ ظهر الانقسام، اتخذت الشجارات الكلامية منحًى خطرًا على وقع تقدم الجيش الحر، وخسائر الجيش النظامي، كذلك على وقع تقدم الجيش النظامي وخسائر الجيش الحر، ثم تسارعت على إيقاع مجازر الشبيحة، واشتباكات المليشيات القادمة من إيران ولبنان والعراق، مع الميليشيات الإسلامية، فاحتقنت المناقشات بالروح القتالية اللفظية، واحتدمت بأصوات غاضبة، هددت جماليات العلاقات الأدبية بأنواعها الشعرية والروائية والقصصية والنقدية بخصومات كادت أن تكون جهنمية، لكن ثقل الأدب، لم يدع الأدباء يتخلون عن التأدب، واتفقوا على عدم ملامسة المناطق الشائكة توخيًا للأمان، وإن كانت دعواهم لئلا تقضي على ما بقي من المزاعم الموضوعية في النقاش، غير أن التمترس وراء المقولات السياسية الحزبية والقومية واليسارية والليبرالية، ذهب بالنقاش ثانية إلى مشاحنات كلامية، وأُرفِق التناحر بينهما بتلميحات طائفية مبطنة بالازدراء المتبادل بين الريف الفاضل والمدينة الفاجرة، والتبس الدين بالإرهاب، وتطاير الاتهامات بالأصولية والمذهبية، ولئلا تقودهم إلى مساءلات لا تحمد عقباها، لن تقلّ عن الاختفاء القسري، جرت تحايلات كان من جرائها إبراز الجانب الجنسي للتعتيم على الجانب السياسي، خشية من المخبرين. فتوافقوا تقية على أن تكون الشتائم السياسية ملغومة بالبذاءة، كان صداها: الشرمطة القومية، والقوادة الاشتراكية، والعهر الليبرالي، والتعريص الإمبريالي، والفحش العولمي، والنخاسة الدينية، الفجور الديمقراطي… وغيرها مما أخذ الأدباء يتلذذون بصياغتها، ولو لم تؤدّ المقصود منها. ما أقصى عنهم الشبهات السياسية وأحالها إلى مناكفات شوارعية مبتذلة، يتداولها مثقفون زعران، كشفت عن حجم الشرخ الوطني، فالوطن أصبح وطنين: وطن دموي مقاتل خفية، ووطن ماجن متهتك علانية.

كان الشاعر سعدي، بحكم صِلاته الأمنية، لا يتقدم خطوة في التخبير إلا بعد الاطمئنان على الأوضاع في الجبهات؛ عمومًا لم تكن سيئة؛ ما دام الجيش متماسكًا، والانشقاقات الفردية والجماعية للضباط والجنود لا تؤثر في صموده. كذلك أخبار القوة الضاربة للشبيحة، وكان شديد الاعجاب بهم، إن لم يقتلوا، يعفّشوا ما يجدونه في طريقهم. فواصل نشاطاته الاستخباراتية، وكانت مرهقة بسبب تعامل الأدباء بالمصطلحات آنفة الذكر. فمثلًا، إذا سمع بالعهر الليبرالي، لا يدري إن كانت الليبرالية شيئًا جيدًا أو سيئًا، أو كان العهر يضيف إليها أو يُنقص منها، وفي ما إذا كانت بصيغتها المركبة، محمودة أو مستنكرة، وهل هي مدانة أم لا، أخيرًا وليس آخرًا، هل تستحق التخبير عنها؟ وإذا كانت قد استغلقت عليه، فلأنه كان حديث عهد بالأدب، فقد أصبح شاعرًا على كبر، حتى إنه عندما سأل عنها، أحالوه على عشرات الكتب، فنفر من الثقافة، فهو لم يعمل في المخابرات ليعود إلى قاعات الدرس والمطالعة.

لم تساعده فراسته الاستخباراتية على تسقط حقيقة خلافات الأدباء الفضائحية، لم تبدُ أكثر من ضغائن غامضة. كان التقدم في تجنيس السياسة أو تسييس الجنس، لغزًا متحللًا من الضوابط، أعيته مراميه، وتكهن فحواه، لم يستطع تحديد هل هو صراع سياسي أم جنسي؟ وإذا كان قد راقه المجون، لكنه كان يبحث في طياته عن السياسي، لم يكتشف شيئًا، وإن ذهب به الظن إلى أنه في إثر نشاطات لا محالة خلاعية مشبوهة.

وساوسه، لم تقصر، فأيقن من أنه ببذل المزيد من التقصي، سيكتشف شبكة تجسسية ذات حوافز جنسية. كانت حلمًا قابلًا للتحقق، فالجنس كان متوافرًا، لكنه لم يتعثر بالتجسس ولا بجاسوسات فاتنات. وإن بذل جهده في الأماكن المغلقة، فكان يتنصت على ما يدور في أرجاء اتحاد الكتّاب، وما يتسرب من شلل المقاهي والمطاعم، ولم يزد على طلاسم، وإن لم يعسر عليه أحيانًا تخمين ما تومئ إليه أحاديثهم الغاضبة من انزلاق نحو تمني رحيل النظام، لكن من دون دليل قوي.

شكّل مقهى “الروضة” مادة وفيرة لإخباريات متنوعة، أعاقه طابعها الأدبي، لم يتبين إن كانت مع النظام أو ضده، كذلك فإن الشتائم، المستعملة في معرض الجدل، لم يوفر فحشها مادة لإخبارية رصينة. بينما كانت المشاجرات التي يسمع طرفًا منها، أبعد ما تكون عن فضّ إشكال، أو وضع حد لخلاف، كان الطرفان متفقين من دون اتفاق، على ألا تتعدى خلافاتهما، أكثر من التمرين بلا جدوى على حرية التعبير عن كل شيء ولا شيء، تعقبها استراحة في المطعم مع كأس عرق، تستأنف في اليوم التالي.

لم تكن مواظبته على ارتياد المقهى لشرب النارجيلة، ولعب طاولة الزهر، بل ليعثر على دليل يقوده إلى إرهابي متنكر، أو شبكة تحت الأرض. لم يمنحه أحد من المترددين على المقهى الفرصة لإنجاز على هذا المستوى، لكن على غير توقع وصلت إليه رسالة بتوقيع مجهول، ادعى صفة: “الغيور على الوطن”، قدم إليه الدليل على عابث بأمن الجمهورية، من خلال قصة، كشف له عن خطرها، لئلا تخدعه براءتها، ودلّه على الرمز الذي استخدمه الكاتب لإيهان عزيمة الأمة.

لم تضِع وساوسه هباءً، عثر على المؤامرة الكامنة في قصة “الفجر” لكاتبها: أحمد حمد الحمود.

القاص الشجاع
دخل الشاعر سعدي، كالمعتاد إلى مقهى الروضة في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، بما يتوافق مع موعد توافد الأدباء لقضاء الوقت، إلى ما بعد الظهر، يروّحون عن أنفسهم ببعض الأحاديث الخفيفة، مع أنها أصبحت ثقيلة، ثم الذهاب إلى بيوتهم، أو مطعم قريب، مع أن المرور بالمقهى قلّ عمّا قبل، بعدما أغلقت الشوارع بالحواجز، والغلاء الفاحش للمشروبات من القهوة والشاي والماء، حتى فاقت أسعار الويسكي والفودكا والنبيذ أيام زمان. فالليرة إلى هبوط، والدولار إلى صعود. لكن لا بد بين يوم وآخر، من مشوار المقهى للاستئناس بالأصدقاء، وتداول أخبار المناوشات، ونتائج الصدامات في الجبهات.

في هذا اليوم، وكان مثل ما سبقه من الأيام، بعثت أصوات رشرشة نوافير البحرة على القنوط، وأثارت الإحساس المعتاد بتوقع انقضاض مصيبة. كان في طلاوة خرير الماء نذير شؤم بانفجار يحيل المقهى إلى أرض يباب، حسب تعبير الشعراء المتشائمين. ولم تكن من غرائب التوقعات، فالبراميل المتفجرة حوَّلت القرى والأحياء والمستشفيات والمستوصفات والأفران إلى ركام. فتطيّر الأدباء. قد يخطئ طيار ويتخفف من برميل متفجر فوق رؤوسهم، سواء كانوا هنا في المقهى، أو في بيوتهم، مع أن الطائرات المكلفة هذه المهمات لا تمرّ في سماء دمشق، لكن الأدباء خُلقوا متطيِّرين.

اتخذ الشاعر المخبر سعدي موقعه حول طاولته المعهودة المشرفة على القسم الأعظم من المقهى، مشرئبًا بعنقه يراقب الداخلين والخارجين. يتيح موقعه لكل من يبحث أو لا يبحث عنه، رؤيته والسلام عليه من بعيد أو قريب.

لم يكن هناك في المقهى مَن هو وازن أدبيًا ذو حيثية سوى فريد الفريد المسؤول عن الملحق الثقافي في جريدة رسمية، ومن الغرائب أن فعاليات الفريد الإبداعية كانت فريدة على سويّة اسمه، فقد كان صحافيًا وشاعرًا وقاصًّا وروائيًا وناقدًا أدبيًا ومسرحيًا وسينمائيًا وتشكيليًا… تفصح عنها ملامحه النكدة.

إذا كان فريد الفريد لم يتبادل السلام ولا الكلام، مع المخبر الشاعر، فلأنهما يحتقر أحدهما الآخر. كان كل منهما يشكل استعصاءً على الآخر، لا يستطع إيذاءه ولا تخويفه. فالشاعر مدعوم من المخابرات، وفريد الفريد مدعوم أيضًا. أما الجهة، فمجهولة.

لم يلبث الشاعر سعدي إلا قليلًا، عندما فوجئ بظهور القاصّ أحمد حمد الحمود بصحبة إحداهن، شاعرة أو قاصة، جلسا وغرقا فورًا في حديث جانبي. فكاد أن يقفز من مكانه من فرط غيظه، ما الذي جاء به؟ المفترض أنه معتقل في الفرع 333، التحقيق بدأ معه، إن لم يكن البارحة ليلًا، فقبل ساعات. هل أفرج عنه؟ مستحيل، حتى لو كان بريئًا، لن يُطلق سراحه قبل أسبوع على الأقل. لا بد أن تأخيرًا حصل، على الأغلب دورية المخابرات تبحث عنه الآن. لن تجده في بيته، ستداهم المقهى بعد قليل، ويشحطونه من أذنه.

تابع القاصّ حديثه مع القاصّة، وربما الشاعرة، بدوَا على انسجام، يتبادلان حديثًا بريئًا من العواطف. ملامح القاصّ كانت جادة، خاصة عندما أخذته روعة ما يصفه بمشاركة يديه، وأصابعه تفسره، ولم يكن سوى حديثه عن تحفته القصصية “الفجر”، ما أغاظ الشاعر؛ القاصّ يسرح ويمرح بقصته في المقهى، وها هو اصطاد إعجابًا وربما أكثر، دونما أحد يقص له لسانه. ما المبرر لتتلكأ المخابرات عن تنفيذ مهامها الأمنية، مع أن دورياتها لا تفارق الشوارع، بينما القاصّ رائق المزاج لا شيء يضيره؟

ألقى نظرة على فريد الفريد، فلاحظ الامتعاض على ملامحه، من فرط غيرته من القاصّ الذي تاه خيلاء بقصته، كان هو بالذات الذي نشرها في الجريدة من دون أن ينتبه إلى مراميها، وعندما انهال الإعجاب على القصة، ادعى أن جرأته بنشرها لا تقلّ عن جرأة كاتبها، لكنه خشي عندما ثارت الشكوك حولها، فزعم أنه نشرها بحسن نية، أما الرمز الخطير، فالقاصّ أسبغه عليها لاحقًا.

طوال الأسبوع المنصرم، مدح المعارضون شجاعة القاصّ، ولم يُغفر للفريد غفلته. لذلك اندلع الشرر من عينيه، بينما أخذ القاص ينعم بقصته، فتمنى لو ينقضّ عليه ويخنقه، لا يمنعه سوى أن القاصّ كان أطول منه وأعرض. كان كلما رآه، لا يملك نفسه، يتوعده في سره، بانتظار فرصة، لن يضنّ عليه بها الزمان، فالقاصّ سيكتب، وسيكون بالمرصاد له.

وإذ التفت المخبر صوب الفريد، وتشابكت نظراتهما، كان للقاء العيون مفعول السحر على الشاعر، وكاد أن يصرخ من الفرحة، كيف نسي؟ هذا الحقير، كان وراء نشر القصة، فتوعده في سرّه، سينال منه يومًا ما، فاعتدل مزاجه، ثم تكدر عندما تذكر الجهة المجهولة، وانصرف بذهنه إلى الدورية التي ستقتحم المقهى، ويشهد بأم عينيه شرشحة القصاص وهو يساق إلى الفرع. الدورية لم تأتِ، أما الذي أتى، فاتصال من موظف في ديوان اتحاد الكتّاب، فللمخبر مخبر مساعد، أعلمه بأن الإخبارية أعيدت إليهم من الفرع 333 للفصل فيها، واتخاذ المناسب بشأنها.
(…)

تعليمات الرئيس الخالد
حوّل العميد نظره عن المحقق، تفعيسه لم يعد فوريًّا، تأجل دقيقة أو دقيقتين، ريثما ينهي الموقف بمجاملة للشاعر يستحثه بها على التريث، هناك فرصة أخرى ستسنح له بعد قليل. كان متحرقًا لإنهاء كلام بات فائضًا، لم يعد إلا ثرثرة، تؤجل تفرغه للهجوم على المحقق.

الشاعر لم ينتبه، واصل اللغو، بينما كان العميد يستعجله بنظراته دونما جدوى، لم يعد يشفي غليله من هذا الثرثار، إلا إسكاته بالانهيال على المحقق بالضرب كيفما اتفق، وأن يصيب جعير شتائمه الشاعر بالصمم.

سعل المحقق لافتًا الأنظار إليه، كان قد عزم على ضعضعة الإخبارية دونما مزيد من الانتظار، وذلك بنسف مهمة الشاعر من أساسها بلا تمهيد، بوجهة نظر حقوقية بحتة، فتكلم قبل السماح له بالكلام:

“بالعودة إلى قانون الرقابة، إرسال هذا النوع من التقارير إلى الفرع، يخالف مهمة المخبر”.

قالها متوجهًا بكلامه إلى العميد الذي تغاضى عن وقاحته، فقد تكلم بلا استئذان، ومن دون أن يُسأل. والتفت نحو الشاعر ليدحض هذا القانون الذي ينزع عنه مهامه المخابراتية، وتمنى في دخيلته أن يكون لدى المحقق ما يتذرع به في دعواه الضعيفة.

ترفّع ضابط أمن الاتحاد عن الإجابة؛ النظر إليه كمخبر فقط، يغفل مؤهلاته الأدبية، لم يأتِ إلى الفرع كي يُهان من موظف صغير، ولو كان محققًا. اللافت أن رئيس الفرع لم يردعه، فسارع منبهًا المحقق إلى أنه شاعر أولًا وأخيرًا، ومهمته في الاتحاد تؤازر شاعريته، لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، فهي مسؤولية أدبية من جانب، وأمنية تطوعية من جانب آخر، عرّفها باختصار:

“حماية الوطن من المؤامرات الإمبريالية وجيوش الظلام”.

للوهلة الأولى، بدا جوابه المفحم لا يطاوله النقد، ما خيّب العميد. خاصة أن الشاعر استخرج تعبير الإمبريالية من ترسانته الأيديولوجية، مع أن استعماله ندر، بعد سقوط الشيوعية، ربما لأنه أوقع على الأذن. أما الجهاديون الإسلاميون، فأراد تضخيمهم، فاعتبر شراذمهم جيوشًا. ما أضفى على كلماته المعدودة مدلولات فخمة.

التفت العميد نحو المحقق، واستحثّه بنظراته للرد عليه في مناظرة تهيأت من تلقائها. واطمأن عندما لاحظ من تحفز المحقق أن هذا ما يصبو إليه، لينقضّ على الشاعر.

بكل بساطة، شرح المحقق للعميد أنّ ما تنطّح المخبر له، كان مخالفًا للعمل الذي ينبغي إثبات جدارته فيه، الفرع اعتمده مخبرًا في الاتحاد لمراقبة الأنشطة السياسية من تدبيج عرائض مشاغبة، وتجمعات مشبوهة، أو إعلان آراء مخالفة، أو ما يشبهها. أما الكتابة الإبداعية، فالاتحاد لا يعوزه جهاز مراقبة، لديه لجان مكلَّفة بالقراءة والمنع، كما أن المشرفين على الصفحات الثقافية في الجرائد مكلفون مراقبة ما ينشر لديهم. إضافة إلى أجهزة أخرى، ألحقت بها إدارات اختصاصها الرقابة. بالتالي، لا يجوز لأحد دسّ أنفه في قضايا كتابية، وإلا ارتكب مخالفة صارخة، ما دام هناك من أوكلت إليهم مسؤولياتها.

ومع أن العميد هاله تعريض المحقق بالمخبر، واستعماله عبارة غير لائقة، تعني أن الفرع يتدخل في ما لا يعنيه، متجاهلًا أنه عمله الوطني، ثم إذا لم يرفع الشاعر التقارير إلى الفرع، فلماذا يقبض راتبًا شهريًّا؟ أليس لقاء الإخباريات؟ أصلًا، ما هو عمله في الاتحاد؟ مع ذلك كانت فرصة ليشمت بالشاعر؛ إذا كان يحشر أنفه في قضايا تخصصية، فقد تطاول عليها، وانتزعها لحساب مآرب شخصية. تعجب في سرّه، فهو لا يستطيع التعجب بصوت مسموع، لئلا يبدو منحازًا إلى المحقق.