لم يتح سوى للأحزاب الشيوعية عمرا طويلا في مرافقة سلطات بلدانها الدكتاتورية، منذ نشأتها إلى حين تساقطها في أواخر القرن العشرين، أطولها عمرا كان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، استطاع البقاء على سدة الحكم نحو سبعين عاما، واستطاعت الأحزاب الاشتراكية الأوربية التي لم تقصر أسوة به في قمع شعوبها والاجهاز على الثقافة. إضافة إلى البلدان النامية التي التحقت بالنظام الاشتراكي، واقتدت بها، وحققت نموًا، عاد بها إلى ما قبل النمو، ريثما تدمرها الحروب الأهلية التي لم تشكل لها أحزابها الثورية، أية حماية من الفساد وتعريض بلدانها لاستمرار النهب الاستعماري. أما في بلداننا العربية ذات الصبغة اليسارية، فتوجت أحزاب السلطة القمعية نهاياتها بحروب ومجازر.
بالنسبة للثقافة أكثر ما عرف عن النظام الشيوعي انتاجه لمأثرة الجدانوفية في الثقافة وكانت نحو تكريس صراع الطبقات والرقابة على الأدب، لم ينج منها سوى المثقفين الذين أعلنوا انشقاقهم وهربوا من البلاد، بينما تعرض الأخرون للاضطهاد طالما كانوا على قيد الحياة، أو للمنفى في سيبيريا، أو للمحاكمة، فالإعدام.
على المنوال نفسه، قيض لحزب البعث في سورية، ولم يكن بأفضل منه حزب البعث في العراق، كان كل منهما الممثل التقليدي للسلطة العسكرية المتربع على سدة الثقافة والتنظير السياسي. عاش حزب البعث السوري عمرا يزيد على عمر الحزب الشيوعي الروسي، بلغ سبعة وسبعين عاما ١٩٤٧ – ٢٠٢٤، وكي نكون منصفين تعتبر فترة التأسيس والسنوات الأولى ١٩٤٧ – ١٩٦٣ خارج هذا الحساب، كانت الماضي المشرق والمشرف الذي لم يدم سوى ستة عشر عاما، بشر بسياسة وطنية عربية قومية تقدمية وحدوية واشتراكية، يقودها رجال على مستوى عال من الثقافة، فقد كان ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار مؤسسا حزب البعث العربي من ذوي الثقافة الاشتراكية الإنسانية. تميز عفلق حينها بأنه كاتب قصة قصيرة، معجبا بالفرنسي أندرية جيد وكتابه “قوت الأرض”، وقيل حينها تندرا عندما ترك القصة والتحق بالسياسة، بأن الأدب خسره ولم تربحه السياسة.
كان مثقفو الحزب آنئذ من أهم المثقفين ليس في سورية، بل في الوطن العربي، ضم بديع الكسم، سامي الدروبي، شاكر الفحام، عبد الله عبد الدايم، جمال الاتاسي، عبد الكريم زهور وغيرهم من أساطين الفكر.
بدأت ظاهرة المثقفين الكبار بالانسحاب من الحزب مع بدايات الخلاف مع العسكر، وحصل الانشقاق بعد فترة الانفصال، مع انقلاب ١٩٦٣، دامت بعده دولة العسكر واحد وستين عاما، سجلت نهايتها في ديسمبر عام ٢٠٢٤، غير أن استقرار الحكم الدكتاتوري بدأ مع الهيمنة المطلقة لسلطة حافظ الاسد عام ١٩٧٠.
لم يطل الوقت عندما انصاع حزب البعث لدكتاتورية الأسد الذي أدرك أن لديه حزبا مواليا، لكن من دون مفكرين في دولة يُطلق عليها دولة البعث. فالحزب كان خاويا من الثقافة والمثقفين، وإن غص بالعملاء الذين يقدمون الخدمات لأي حاكم على أمل الانتفاع من السلطة، كانوا من لوازم الدعاية والإعلام. لم يمتلكوا القدرة ولا الكفاءة على الترويج لأيديولوجية مُقْنِعة، خاصة أن اليسار وعلى رأسه الحزب الشيوعي السوري كان آخذا بالتمدد والتحول إلى أجنحة تجتذب المثقفين وطلاب الجامعة على تعدد أيديولوجياته، تماشيا مع تنوع انشقاقات اليسار في العالم.
استطاع حافظ الأسد تحويل هذه الأحزاب ذات الصبغة الاشتراكية إلى مكاتب وسيارات وجرائد ومنشورات هزيلة، استطاع بعض المثقفين النجاة من هذا المصير باستقلاليتهم عن الأحزاب، وكان من بينهم سعد الله ونوس وشوقي بغدادي وحنا مينه وممدوح عدوان ومحمد الماغوط وزكريا تامر، شكلوا رغم تفرقهم شبه تحالف قوي في عدم السير وراء السلطة، ما اعطاهم هامشا انتقدوا فيه مؤسسات النظام وتجاوزات رجالاته.
كانت المشكلة في صناعة ثقافة لنظام دكتاتوري شمولي، بينما الأداة حزب يفتقد لمثقفين حقيقيين، غير ان الحزب الذي يفكر على نمط السلطة، اقتدى بالأسد الذي استولى على الحكم بالانقلاب، فبادر الحزب واستولى على الثقافة وتبرع بالمناصب. كانت عملية الاستيلاء كيفيا، بالواسطة والشهادة الحزبية ورقابة المخابرات.
ابتدع رفعت الأسد، الأخ الشقيق لحافظ الأسد، مثقفا على نمط أكاديمي، وارتأى أن السمعة الثقافية لا تكفي، بينما تكفل السمعة الجامعية ضمانة أكبر، في ما تدره الشهادات من ثقة، خاصة شهادة الدكتوراه، يمكن التعويل على اللقب، كبديل عن الثقافة، حتى من دون أن يمتلك حاملها ذرة من الثقافة. وكان رفعت الأسد أول من حصل عليها بالقوة، وكان بانتزاعها من الجامعة رغما عنها.
اعتبرت شهادة الدكتوراة، المؤهل المعتمد للمثقف، اسوة بالرئيس الخالد حافظ الأسد المؤسس للأبد الأسدي، وإن لم يحصل على شهادة عالية، لكن بالنظر إلى قضائه عامين في الكلية العسكرية، كانت بمثابة شهادة في العلوم العسكرية، تماثل شهادة جامعية، أما الدكتوراه، فقد برهن عليها بخوضه سلسلة انقلابات كان جزءا منها، سواء على الهامش أو أحد المؤثرين، أو في القمة، بينما كانت انقلابا واحدا متدرجا، قضى خلاله على خصومه، ثم على رفاق الدرب، واعتبر نجاحه في الحركة التصحيحية، شهادة دكتوراه في علم الانقلابات ما منع حصول أي انقلاب بعدها. انفرد بعدها بالسلطة المطلقة.
أصبح العلم العسكري الوعاء الخصب لإفراز شهادات دكتوراه، حققت انتشارا واسعا بين الضباط الذين هزموا في حربين عام ١٩٦٧ و ١٩٧٣ عوضوا عن العمل الانقلابي، بالحصول على شهاداتهم من الجامعات المحلية، وجامعات أجنبية، كان اغلبها من جامعات من مخلفات العهود الاشتراكية، أو جامعات مجهولة تمنح شهادات مختومة وموقعة، أو مزورة بدراسات هامشية ونادرة. ولم تحل سوابقهم الجرمية من قتل ونهب ومخدرات من الحصول عليها بامتياز أو بدرجة الشرف الأولى، فقد كان المنح حسب الدفع، مهما بلغ الحائزون عليها من غباء، ودموية، وانتهازية، ونذالة.
أصبحت سوريا الاستثناء الفريد في العالم، بكمية شهادات الدكتوراة التي حاز عليها ضباط ومسؤولون، ووصفت بالبلد السعيد، واكتسب نظام التصحيح مكانة رفيعة، مع تدفق الشهادات العالية، وشاعت سمعة سورية على أنها بلد يحكمه طاقم من المثقفين حملة الدكتوراه، ما سيسهم في تحويل سوريا إلى جمهورية فاضلة، عبارة عن يوتوبيا لا تقل عن يوتوبيا توماس مور او كامبانيلا.
ومثلما حاز الرئيس الأب، على ثقة الدول الكبرى، حاز الابن الوريث على الثقة نفسها، مع اعتبار كل منهما بالتتالي رجلهم في الشرق الوسط، الذي يزودهم بالمعلومات عن الإرهابيين، ولم تقصر الأجهزة الأمنية فاخترعت ارهابيين ليقودوا الإرهاب بدموية لافتة، واصبح الامريكان يرسلون الى الدولة الفاضلة المشبوهين للتحقيق معهم، لعدم إمكانية تعذيبهم في البلدان الديمقراطية بينما التعذيب في الاقبية السورية يتم بإشراف حملة الدكتوراه، واستطاعت شبكة العلاقات السرية وقنواتها المخابراتية التي عقدها الاب مع أمريكا وأوربا وروسيا تنظيف سمعة النظام حتى من مجزرة حماه، وفيما بعد اغتيال الحريري، فأصبحت دولة محورية في المنطقة، وانهال الدعم عليها من الروس وكوريا وايران وكوبا، فقد كان لكل دولة جرائمها، لا يقصر حملة الدكتوراه في تبريرها، فالدكتوراه ثقافة، هل هناك أكثر قدرة من المثقفين على تسويغ ما لا يسوغ؟
ولئلا يحصل خطأ، ويظن البعض بأن الرئيس الابن، أهلته للرئاسة شهادة الدكتوراه التي حصل عليها في طب العيون، وبفضلها بعد سنوات، وربما في اليوم التالي، قد يصبح رئيسا، حتى أن شرط السن لن يعوقه في ما لو رحل ابوه فجأة، فالسن القانونية أصبحت مطاطة، كما أن الرئاسة باتت بالوراثة، وما سيحيط بها من إجراءات في مجلس الشعب كان للشكليات فقط، حتى أن النظام الجمهوري، لن يطول العمل به، طالما أن التفكير يتجه إلى الغاء الجمهورية وتحويل سوريا إلى ملكية، توفيرا لتكاليف الانتخابات، ومنعا للهدر، ثم ما الحاجة لتزويرها والتلاعب بالصناديق والاصوات، طالما النتائج مضمونة.
أصبحت الدكتوراه من المؤهلات التي لا غنى عنها، ولو أنها تشرشحت، بعدما بات الحصول عليها لكل من هب ودب، حتى أن واحدا من أصحاب مصانع الكبتاغون من العائلة الرئاسية وهو شبيح معروف، أنعمت عليه جهة دولية غامضة، ربما لا وجود لها بالدكتوراه الفخرية لدوره الهام في الحفاظ على السلم العالمي.
أخيرا، في 29 نوفمبر 2024 كان موعد مناقشة أطروحة الحفيد حافظ بشار الأسد للدكتوراه في جامعة موسكو الحكومية “لومونوسوف”، بعدما حصل على شهادة الماجيستر في حزيران 2023، كان الشاب يحرق المراحل إلى الرئاسة بحرق الشهادة تلو الشهادة، ساعيا إلى الدكتوراه اللعينة مع أنه ليس بحاجة إليها، لكن الشكليات هي الشكليات. فأضيف حامل للدكتوراه آخر إلى العائلة الرئاسية، مع أن الوراثة هي المؤهل الوحيد.
وبهذا المجال ينبغي التأكيد على أن شهادة الدكتوراه الروسية كانت حقيقية مئة بالمائة في مظاهرها، منحت له في حفلة تخرج، حضرتها السيدة التي كانت الأولى، وكانت فرحة جدا، لم تذرف دموع الفرح، لاعتيادها السعادة من دون دموع. كانت الحفلة بحضور رئيس الجامعة والأساتذة، ما أكد الصداقة بين دولتين، المانح دولة احتلال، والممنوح دولة محتلة، ولم يكن المنح على مستوى دول، إلا لأن العمل الرئاسي يحتاج كما يبدو إلى شهادة في الرياضيات البحتة، تجارى التقدم العلمي، مع ان شهادة في برمجة التعذيب أفضل، ولو كانت لا تحتاج إلى شهادة، بعدما غدت بالطبائع الشريرة.
تلعب الشهادات دورها الأمثل في تميز النخبة السياسية التي تقود البلد، ما يميزها عن العوام الذين ينقادون إليهم، حتى لو كان بين العوام حملة شهادات عالية، حصلوا عليها بكد عقولهم، بينما النخب السياسية، لم تحصل عليها بالكد، وانما بالنهب، أي دفع ثمنها مما اختلسوه وسرقوه، وهو من الامور التي باتت عادية، لان النهب بات يسري في عروقها، وبات تقلد الشهادات تقليدا مرعيا. ما أسبغ عليهم لمسة من القداسة، جريا على قداسة باتت أيضا تكتسب اكتسابا.
ولئلا يفوتنا الحفل الذي سنودع به هذا البلاء المدجج بالشهادات، لا بأس بنقل المشهد الأخير، فقد كان بشار الأسد في عالم آخر، عندما سقطت حلب في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر في بداية حملة “ردع العدوان” ، كان من المفترض أن يحضر الجلسة التي سيدافع فيها ابنه عن رسالة الدكتوراه، في قاعة ضخمة تشرف على تلة تطل على العاصمة الروسية.
في ذلك اليوم، حصل الحفيد الذي كان من المحتمل أن يصبح رئيسا بعد موت أبيه من دون أية عقبة تعترض طريقه إلى الرئاسة، لكن من الضروري معرفة أن أطروحة الدكتوراه مكونة من 98 صفحة، تحت عنوان “الأسئلة الحسابية لمتعددات الحدود في حقول الأعداد الجبرية”، لم تكن لافتة على الاطلاق، لكن الإهداء اللافت سيجذب انتباههم: “إلى شهداء الجيش العربي السوري، الذين لولا تضحياتهم بأنفسهم لما كان لنا وجود”.
لم يحضر بشار الأسد مناقشة الرسالة، كان يدير عملية نهب أموال البنك المركزي السوري، وترحيل مقتنيات ثمينة ووثائق عن حساباته في الخارج، واستثماراته المعقدة في عدة بلدان. عند عودته إلى المنزل، كان الجيش الذي أشاد به ابنه باعتباره بطلا ينهار أمام تقدم قوات الثورة.
بعد هذا اليوم، لن يكون للعائلة وجود في سورية.