مثلما حازت المؤامرة على انتشار واسع، لم تفتقد إلى إنكار يُوازيه حجماً، ليس في بلادنا فقط، بل في العالَم كلّه، ولا تعدم زبائن لها من جميع أنواع البشر، يعلّلون أو يرفضون بوحي منها تفسير تقلُّبات العالَم وانهياراته. ولا تُستثنى الحكومات من إحالة ما يُريب في الخفاء إلى المؤامرة. بينما أكثر ما يُشاع فهو ادّعاء أنّ الحكومات على مُختلف أنواعها تتحكّم بها قنوات سرّية تُدار عن طريقها كواليس سياساتها، أو وجود منظّمات مجهولة الهويّة تسعى للسيطرة على البشر، وربّما مخطّطات لمجموعة من العُقول الجبّارة، تُريد تغيير العالَم بالعمل على تقليص عدد السكان في قارات أفريقيا وآسيا توفيراً للغذاء… والكثير من هذا الهذر.
إذا أردنا رصْدَ الإقبال الذي تحظى به، وما أكسبها من جماهيرية واسعة، يكفي معرفة أنّ أعمال الروائي دان براون، خاصة روايته “دافنشي كود”، التي وُزّع منها ملايينُ النُّسخ بمُختلف اللُّغات العالمية، قد ولجت عالماً من الألغاز، وروّجت لوجود مؤامرة تُديرها قوًى مجهولة تعمل سرّاً على قيام “الحكومة العالمية”.
لم يُصبح للمؤامرة نظرية إلّا بعد بروزها في نهاية القرن الثامن عشر. اعتمدتها مجموعة من بافاريا ضدّ الديانة المسيحية، ثم أُلصقت بالماسونية العِلمانية، فاتّهمت بالمُروق والإلحاد، ثم غدت المؤامرة يهودية، مع صدور “بروتوكولات حكماء صهيون”.
ظاهرةً سياسية شعبوية وثقافية لا يستعصي عليها تفسير شيء
تستوحي هذه النظرية موضوعاتها من مخزون هائل من المعتقدات القديمة، والخُرافات والشائعات والأقاويل الدَّارجة. تَستغلُّ كلّ ما يُوقظ العوالم الخَفيّة من سُباتها، ينفض عنها غبار القرون السالفة ويُدرجها في الثقافة الشعبية. عوالم تتشكل فيها قوى الظلام، ما يحرّض القوى المُستنيرة على التصدّي لها، والصراع معها، وغالباً الانتصار عليها، كما في المسلسلات التلفزيونية.
وليس من المستغرب أن يستلهم منها اليمين المُتطرّف أطروحاته السياسية، ما يرفد نظرية المؤامرة، حتى باتت فكرة التآمُر تشكّل، اليوم، إحدى أكثر الأساطير السياسية الحديثة مركزية في عالمنا، وبسبب الدعاية باتت أداة لإخفاء أو لإظهار ما يُحاك في دهاليز السياسات السرِّية من اتفاقيات وتعاقُدات بعيداً عن رقابة الرأي العام، حتى باتت من فَرط انتشارها ظاهرة سياسية شعبوية وثقافية متداولة، تُفسّر تحرُّكات ومُتغيّرات عالَمٍ من الخفايا لا تستعصي عليه أيّة مُعضلة، طالما أن قوى متنفّذة عبارة عن أقلّية من النخبة لديها القدرة على استخدام ما يزعم عن وسائل خارقة لبلوغ غاياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والعِلمية والسيكولوجية… وليست قدراتها فعّالة إلا لأنها عَليمة ببواطن الأمور.
ما الذي جعل نظرية المؤامرة تستعيد شبابها قبل نهاية القرن الماضي؟ يُعتقَد أنّ ازدهارها مردُّه ما أعقب تفكُّك الاتحاد السوفييتي، وما جاء بعده من سلسلة “الثورات المخملية الملوّنة”، لم تنته بـ”غزوة نيويورك”، ولا تدمير العراق، ولم تتوقّف المؤامرة عن العمل، بل كانت وراء الربيع العربي، بإجماعٍ جرى التوافُق عليه من ديكتاتوريات المنطقة.
أصبح للمؤامرة حضورٌ، ما دام لها تاريخ يُسترشَد به، ويتّسع لجميع ما حلّ بالبشر من كوارث وأوبئة، مزوَّداً بعشرات الحوامل الغيبية، بات لها وجودٌ على الأرض، ولو أنها تستعين بالأوهام، انفتحت على البشر، واعتُمدت شعبوياً، وطاولت اتهاماتُها عن حقّ أو باطل، خُطط المخابرات الأميركية الجهنمية، وطموحات أسلمة العالَم، والنوايا الشريرة لليهود للسيطرة على الكُرة الأرضية.
وكان في القول بوجود مؤامرة عالمية مرجعية تُفسّر آلية تعاقب الأحداث في التاريخ، وصدى باعتبارها مؤامرات متتالية تُنظّمها مجموعة من أصحاب المصالح، لا يظهرون على خشبة المسرح، لكنهم يحرّكونها من وراء ستار. وصحيحٌ أنّ وسائل الإعلام لا تُخفي شيئاً، لكنّها تعمل على تشويش الحقائق، وترويج الأكاذيب.
يُعزى ترسّخ نظرية المؤامرة إلى إفلاس الأيديولوجيات، لم تعد محلّ صراع يُؤدّي إلى التنافس، ولا قادرة على تقديم الأسباب لما يجبُ النزاع من أجله، حتى الفقراء فقدوا أحلامهم في التغيير، ما دام الأغنياء يحوكون الدسائس لإجهاضها. كما كان لانسحاب المشاريع السياسية الكُبرى، وما مثّلته لمئات الملايين من البشر، من آمال كاذبة، ولو كانت صادقة، خسارة الإيمان بِسُلطة تُريد الخير لا التسلُّط، ولو كان بارتكاب أقذر الجرائم.
واكب تراجُع فكرة التقدُّم التي سادت طويلاً، لا أقلّ من قرنين، أن فقد المُستقبل توازُنه، وتخلخل عالمٌ بدا مستقرّاً على فكرة الثبات، والتقدُّم الوئيد في جميع الأحوال، فإذا به تائهٌ بلا دليل. كما كان لوهن حالة الاستقرار نفسها لدى النخبة ولأعداد مُتزايدة من البشر، ما حرّض فكرة أنّ العالم يتّجه نحو الكارثة، فاستهوت المفكّرين حالة الانحدار، والسقوط، فالانحطاط، والدمار، والموت… وباتت ذات جاذبية أكبر.
-
المصدر :
- العربي الجديد