في العقد الأخير، اعتُمد في العالم مفهوم ثنائية الأخيار والأشرار، التي أطلقها الأميركان بعد غزوة 11 سبتمبر/أيلول 2011 على أعدائهم الجهاديين: الأخيار نحن، الأشرار أنتم. كانت عودة إلى مفهوم “الكاوبوي” في السينما الأميركية، قبل أن يتطور، ويصبح الأشرار محل رضا السينما؛ اللص الظافر بملايين الدولارات، والقاتل الناجي بجريمته، كتقدير للذكاء الأميركي، على النقيض من مقولة: الجريمة لا تفيد. إزاء ذلك الحدث المزلزل، غيّر الأميركان تقديرهم للذكاء، الذي كان وراء العملية، التي قام بها عرب مسلمون، إذ لا ينبغي التسامح مع الذكاء غير الأميركي، وعاد إلى الثنائية القديمة، التي عفى عليها الزمن.
على النهج ذاته، ومن دون اتفاق، أطلق جهاديو القاعدة الثنائية نفسها، ومن قبلهم الأخيار في المعسكر اليساري. ولم يكن عبثاً إطلاق الإيرانيين لقب الشيطان الأكبر على أميركا، كما لم يكن عبثاَ، أخيراً، إلغاء هذا اللقب. فالسياسة جندت الخير والشر في حروبها المتبادلة، بات الأخيار، في عرف الأول، الأشرار في عرف الثاني، وبالعكس، مما أودى بالخير إلى التباس في عرف الناس الطيبين، الذين يجهلون قدرة السياسة على تحويل هذا إلى ذاك، مع الفرق الهائل بينهما، فالأقنومان أصبحا يتبادلان المواقع.
في الحقيقة، هذا لم يؤثر في الشر، سمعته سيئة أصلاً. أما الخير… فكأنه لا خير في هذا العالم. الطبيعة الإنسانية غير مفطورة على الخير، ولا على الشر، كلاهما مكتسبان من البيئة المحيطة، فالإنسان لم يجبل على الخير، كما لم يجبل على الشر. الخير والشر مباحان، والإنسان مخير بينهما.
لكن، هل هو مخيـَّرٌ فعلاً؟ لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم، مهما كان معافى، من دون مفهوم محدد للخير، ولا يقصد أن المجتمع طائفة من الأخيار، وإنما في أنهم يريدون فعل الخير، بما ينعكس على أفراد المجتمع كافة، خصوصاً بعد أن تخلصت المجتمعات من التنظيرات الأيديولوجية المنحرفة، والمغالية في القسر على الخير الجماعي. هيمنت الدول الشمولية الشيوعية والنازية، مع الخلاف بينهما، على تبني مفهومٍ عام، يصلح مرشداً للخير الجامع. فاختارت مفهوماً محدداً يخصها، وروجته بين شعوبها، تحت طائلة العقاب، ليس الاعتقال أولها، وإن كان الموت آخرها. يتماشى الخير الشمولي مع الشعارات المعلنة للدولة، فالخير هو في العمل على تأسيس مجتمعٍ بلا طبقات، والقضاء على الطبقة البرجوازية، والسعي إلى إقامة دولة ديكتاتورية البروليتاريا، وإقصاء المعارضين في المنافي والقبور، أو فيما طرحته النازية من شعارات، أحدها ألمانيا فوق الجميع… إلخ .
ما سلف من احتكار الخير الأسمى كان أسيرَ نمط ٍ معين، يقود إلى سحق طبقات بكاملها، وإلى التطهير العنصري، والإبادة الجماعية، والصمت المؤبد. وفي أنماط أخرى، تسعير الحروب الدينية والمذهبية، ففي إسبانيا، تحت مفهوم الخير الإلهي، خُيّر المسلمون واليهود بين التنصير أو الطرد، وحتى الذين تنصروا لم يسلموا من المطاردة، اتهموا بأنهم يمارسون شعائر أديانهم القديمة سراً. الدولة، بصورتها البريئة محايدة، وهو تصور خيالي. عموماً في بلداننا العربية هي تابع أمين وسيئ للسلطة الغاشمة، تحت شعارات انتهازية، وطنية وقومية. وفي أحسن حالاتها عرضة للتجاذبات السياسية والتحزبات، وتوازن المصالح، التي هي على عداوة مع التوازن.
لذلك، الصراع قائم، والتقييم للخير والشر مختلف، فهي نظرياً تمثل الخير، وتشن حربها على الشر. ولا تتورع تحت يافطة حماية المجتمع عن سلبه إرادته، والاستحواذ عليه. فلا تسمح له بالتظاهر ضدها، والاحتجاج على قوانينها، والحق بمقاضاتها. الحقوق المتعارف عليها في الأنظمة الديمقراطية، على هشاشتها، حُرم منها المجتمع في الدول الأمنية، التي تؤمن الأمان والاستقرار لمواطنيها، فتمنع أي اعتراض. لا يعم الخير المجتمع، إلا بإحلال الصمت، فالخير هو في الخضوع المطلق. وبهذا المعنى، تمثل الدولة الأمنية الخير المطلق.لا عبث في القول إن المجتمع هو أساس الأخلاق، التي منها ينبثق الخير المشترك، والذي منه تنطلق مطالبات البشر، وعلى أساسه يعترف بشرعية الدولة والحكومات.
وكما أن الخير بيـّنٌ، الشرّ بـيـّنٌ، لا تأويل فيهما، الخير في أميركا ليس شرّاً في روسيا. ما يلوح اليوم ليس إلا طبعة منقحة من الحرب الباردة، إرهاصاتها قادمة في الأفق.
-
المصدر :
- العربي الجديد