لا انفصام بين الأدب والسياسة، الأدب سياسي بطبيعته، وما يقال عن نقائه، زعم لا يحتاج إلى دحض، بحيث كان خلوه من السياسة اتهاماً صريحاً باللامبالاة. حتى الموسيقا، الفن الأكثر نقاء، النظيف من الكلام وإبداء الرأي، خاض في مستنقع السياسة. اتخذ بيتهوفن موقفاً إزاء الثورة الفرنسية، عندما كتب السيمفونية الثالثة، تحت عنوان “البطولة” في إشارة واضحة إلى نابليون، وكانت بضربات طبولها إعلاناً عن موقف سياسي، لكن عندما وصله خبر تنصيب نابليون لنفسه امبراطوراً على فرنسا وأوروبا، غضب وأسقط البطولة عنه، وأسقط معها العنوان، منذئذ عرفت بالسيمفونية الثالثة فقط.
إذا كان الأدب قد التصق بالسياسة، فإن السياسة لم تعترف بالأدب، إلا في الخطابات الرئاسية التي لا يكتبها الرؤساء، الأقوال المشهورة المنسوبة إليهم، لا فضل لهم فيها، كانت لهؤلاء الذين يصيغون خطاباتهم. طبعاً يُستثنى زعماء وقادة كانت تجربتهم الحياتية وبصيرتهم الفذة أعلى من مناصبهم السياسية ومقام الرئاسة. بشكل عام، لا نلحظ تأثيرات أدبية في السياسة، ليس لأن السياسة تخلو من الأدب، بل لئلا يلتزم السياسيون بمعايير أخلاقية، تمنعهم من حرية المناورة. في عرف الساسة، الحرية تعني الكذب.
وقفات الأدب مشهودة مع الثوار والثورات، حالف الأدب الثوار وناصر الثورات، من واقع انحيازه إلى قيم العدالة والمساواة والحرية. لم يكتف الأدباء بالخطابات الملتهبة ولا بالتأييد اللفظي، كانوا من الضيوف الدائمين على السجون والمنافي، وقدموا الشهداء؛ بتصديهم للطغاة، لائحة طويلة، لا تبدأ بسقراط، ولا تنتهي بالحلاج وابن المقفع، ولوركا ونيرودا.
لا يفتقد الأدباء والفنانون في بلادنا العربية إلى الحس السياسي، وربما كانوا الأكثر تأثراً بأوضاع بلدانهم البائسة. لكن، مواقف بعضهم، وهم ليسوا قلة، ولا من عديمي الموهبة، بل ومن المؤثرين في الأدب والدراما، ولديهم الشعبية الكافية ولا ينقصهم المريدين، لاسيما وأنهم مدينون بشهرتهم إلى اشتغالهم على موضوعات وأعمال مسرحية وتلفزيونية تعتمد النقد السياسي والاجتماعي؛ تفرض التساؤل، عن انحيازهم ضد شعوبهم، واستخدام شهرتهم في تجميل الطغيان وتبرير القمع.
ليس من العسير أن نحصل على إجابة سريعة، كافية ووافية، ببساطة لأن مصالحهم مرتبطة بمكاسب ضمتهم إلى صفوف المنتفعين من اضطهاد شعوبهم. أما الزعم بأنه ليس على الفنان أو الكاتب أن يكون سياسياً، فتحايل على الإدراك، إن التمييز بين الحق والباطل لا يحتاج إلى رؤية سياسية.
يعتبر الأدباء المدافعون عن الأنظمة الفاسدة، المثقفين الأكثر ادعاء، ليس لأنهم مثقفون فحسب ، بل لأنهم الأكثر تبصراً في الواقع، أحالوه ويا للسخرية متاجرة برأسمالهم الواعي بمصالحهم الشخصية المتناقض مع تحرر شعوبهم، فهم لا يجهلون ما يصيب الناس من مآس، ولا الوطن من دمار، وفي إنكارهما، تتبدى قدراتهم الضحلة في التلاعب بالكلام وتسويق الحجج الزائفة، واستغلال معرفتهم في التجني على الحقائق، والتذرع بشعارات وطنية وقومية، كانت المقاومة والممانعة من ضحاياها في تبرير جرائم لا يدافع عنها.
فإذا كانت المرحلة الأولى التذرع بهذه الشعارات، فالمرحلة التي أعقبتها، كانت في الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، تبديل الاتجاه هذا، سبقته إليهم الأنظمة الحاكمة بالتركيز على تبني الأكاذيب الشائعة عن التهديد الأصولي وافتعال الخصوم من ذوي اللحى والعمائم لابتزاز مخاوف الغربيين من الجماعات الإسلامية والجهاديين الانتحاريين، مجانين الجنة والحوريات؛ الموضة السائدة في العالم، وثقافة دارجة تلاقي رواجاً في ساحة متعطشة للذرائع، يجري استثمارها إعلامياً ودعائياً، لإنتاج مواقف الغرب بحاجة إليها، في هذا الخضم، إذ تستدعي مصالحه التنكر للدوافع الأخلاقية، وتبني حجاج عقلاني ليس أكثر من مخاتلة وتنصل من التزامات تفرضها الإنسانية.
الحاجة إلى الثقافة، وهي الفكر والأدب والفن، ضرورة لفضح ما يجري تحت غطاء سياسات تجد في القتل بديلاً عن العقل.
-
المصدر :
- المدن