في معرض الانقلابات، تعود الذاكرة إلى الانقلاب السوري الأول في سوريا، والذي تعرضت إليه في روايتي “تياترو ١٩٤٩”، ما استدعى مني وقتها البحث في أسبابه وفصوله وتداعياته. كان من جملة ما عرفته، هو ما سبقه من قصر نظر بعض السياسيين، بمشاركتهم العسكر في هذا الانقلاب وما أعقبه من انقلابات، فالسياسيون لم يغيبوا تماما عن مسرح العمليات ولا الكواليس، وإن اقتصر في الانقلابات الأخيرة، بعد ما دعي بثورة 8 آذار 1963على سياسيي حزب البعث، وكانوا عسكريين، أو يعملون تحت سلطة العسكر.

ما توضح بجلاء بعد الانقلاب الأول، هو إدراك السياسيين أن البقاء في الحكم لم يعد يضمنه وجود أحزابهم في الحياة السياسية، وإنما بوجود مماثل في الجيش، فكانت هناك شلة الضباط المتعاطفة مع حزب الشعب، وشلة الضباط المؤيدة للحزب الوطني، وهناك من أخذ يستميل ضباط الأقليات الذين بدأت إرهاصاتهم مع الحكم الوطني عقب الاستقلال. وكان من نتائجها، بعد فشل الانقلاب، عدم المطالبة بمحاكمة حسني الزعيم محاكمة علنية عادلة، بل أعدم من دون محاكمة، وإلا لكانت محاكمة للضباط والسياسيين على السواء.

منذ ذلك الحين بات الجيش طرفاً في الحكم، يتدخل في تشكيل الوزارات وانتخابات البرلمان وتحالفات السياسيين والأحزاب، واتخاذ القرارات. وأصبح من المعروف أن كل ضابط كبير محسوب على حزب. إن لم يكن الحزب محسوبًا على ضابط.

لم تعد السياسة سوى وهم كسره العسكريون، أدى إلى تقاسمهم الحكم مع السياسيين قسمة غير متكافئة، سياسيون عزل وعسكر مسلحون. بينما السياسيون غافلون يستقوي بعضهم على بعض بالعسكر، وكما وصفتُ الوضع ملخصًا في الرواية، بأن العسكر يتسيّسون، بينما الساسة يتجيّشون… لكن بلا قوة. وسوف يمضي العسكر قدماً، يعضدهم سياسيون عاجزون، ودائماً سوف تكون هناك حكومة غير قوية، يزيدها العسكر ضعفاً، وعلى الدوام سيجد الضباط عديمو الصبر، أنهم مدعوون للإصلاح بحماسة معززة بإحساس مبالغ فيه بضياع وقت ثمين يُهدر في البرلمان، وتبدده حكومة عديمة الحيلة. بعدئذ يأتي الانقلاب عبر البلاغ رقم واحد، مع أنه تحصيل حاصل.

مع بداية القرن الحالي، عادت الحروب والثورات كآليات للتغيير في المنطقة، ما استولد الانقلابات كأحد أسوأ الحلول لإيجاد صيغة لعدم التغيير

مع بداية القرن الحالي، عادت الحروب والثورات كآليات للتغيير في المنطقة، ما استولد الانقلابات كأحد أسوأ الحلول لإيجاد صيغة لعدم التغيير، فظهر السيسي في مصر وحفتر في ليبيا، وجاء الإيرانيون إلى سوريا لمنع التغيير والانقلاب معًا، وما زالت دول في انتظار العسكر، فالمنطقة كما بدت مستعصية على الديمقراطية، لكن الآمال كانت منصبّة على تونس، كانت تخوض التجربة الصعبة نحوها، ما يبطل الاستثناء العربي.

لذلك كانت المفاجأة والتساؤلات التي أعقبتها، هل حركة الرئيس قيس سعيّد في تونس انقلابًا؟ إذا كانت كذلك، فليست انقلابا كلاسيكيًا، عمومًا ليست الانقلابات في المنطقة موحدة في التفاصيل، وإن كانت في الطابع، فهي متشابهة، حركة قيس سعيد تشذ عنها إلى حد ما، لم تظهر الدبابات والطائرات بعدُ على الساحة، لكنها تمتّ للانقلاب بصلات قوية من ناحية الخطوات الأولى، في ما يماثل البلاغ رقم واحد، بتقييد العمل الديمقراطي، وذلك بتجميد سلطات البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه، وتولي السلطة التنفيذية. ولا يستغرب مساندة أحزاب متطرفة في علمانيتها، تريد التخلص من الإسلاميين ولو ضحت بالديمقراطية، ولا يمكن لهذه الحركة أن تحصد جماهيريتها لولا شعبوية الطرح التي اعتادته الانقلابات، بالركوب على الأخطاء، والتعلل بالفساد، مع أنها لا تلغي الديمقراطية، بالوسع محاربة الفساد مع الإبقاء عليها، إلا إذا كانت الديمقراطية هي المستهدفة.

تتماثل الانقلابات بالوعود التي تغدقها، فالعهد الذي أسقط، سرعان ما يدعى بالعهد البائد، أما العهد الجديد، فمرحلة القضاء على الفساد وإقصاء الفاسدين، ثم تشكيل حكومة تدعى بالحكومة الوطنية، وبرنامج إصلاحي واعد جدًا وغامض جدًا. وإشغال الشعب بتسارع القرارات والأحكام والمحاكمات، نتمنى ألا تكون على نهج الجار المصري، فالإعدامات تتوالى بلا توقف لمجرد أنهم من الإسلاميين، رجال كبار في السن وشبان في عمر الزهور.

ليس من الضروري التقيد بهذه السلسلة، إذ للانقلابات أو ما يشبهها خصوصياتها، لذلك قد نبالغ نحن السوريين الذين اكتوينا بهذا الداء نحو ثلاثة أرباع القرن حتى الآن، الذي خلّف مئات آلاف الضحايا، وما زال الورثة يتسلطون على الناس بالسجون والمعتقلات، ناهيك عن أربعة احتلالات، وبلد خراب ومنهوب، مع فقر وغلاء، وملايين من اللاجئين والنازحين. أما متى تنهض سوريا وتنتصب واقفة، فيصعب التنبؤ، بعد عشر سنوات من الدمار، أقدارها ليست بأيدي السوريين.

نستعيد التجربة السورية، لأن الرئيس قيس سعيد أعلن قراراته بحضور القيادات العليا للجيش والأمن، ما يدل أنه ضمن ليس موافقتها فقط، بل ومساندتها، قبل الإقدام على حركته غير الدستورية. ما يثير التساؤلات حول المؤسسة العسكرية التونسية التي شاركت في إجراءات وقف الحياة الدستورية. ورغم ذلك، تظل موافقتها، وربما مشاركتها المحدودة، ليست دليلا على تغير في السلوك الذي طبع تعاطيها مع الأحداث منذ ثورة 2011، خلالها نأت بنفسها عن التجاذبات السياسية، وإذا كانت قد تورطت باللعبة السياسية، فهذه خطوة قد تكون على طريق طويل، طريق الانقلابات الرحب.

أخيرًا، بافتراض قيام شبهات مع الانقلاب السوري الأول، ألا ينفيها أن الضابط حسني الزعيم كان عسكريًا مغامرًا، صاحب نزوات تسلطية مبكرة، أما الرئيس التونسي فأستاذ جامعي رصين يُدرّس مادة القانون الدستوري. وفي هذا مقارنة طريفة ومرعبة في آن، كيف يجتمع في شخص واحد، أستاذية في الدستور، وفي الوقت نفسه، تفسيره بحيث يجيز الاعتداء عليه؟ ما يمكن أن نستشفه هو أن الطريق سالك أمام العسكر، فهل يتورطون؟