ليس بالضرورة أن تلعب نشأة الكاتب دورًا في اتّخاذه موقفاً ينسجم مع طبقته: قد لا يجاريها ولا ينصاع لسلوكيّاتها، هذا إن لم ينقلب ضدها. يمثّل الروائي الروسي ليف تولستوي أنصع مثال على كاتب لم يكن ضدّ طبقته فقط، بل ضدّ عصره أيضًا، على الرغم من انتمائه إلى عائلة إقطاعية تنتمي إلى النبلاء الروس، كانت تملك أراضيَ واسعة. أبوه يحمل لقب الكونت، وأمّه من طبقة الأمراء. كانت عائلة تولستوي تلي في المرتبة العائلة المالكة.

انخرط تولستوي في صفوف الجيش بمنطقة القوقاز، وخاض حروبها. في الوقت ذاته، كتب ثلاثيّته عن طفولته، ومراهقته، وشبابه الأوّل. ثم استقال من الجيش ليتفرّغ للأدب كلياً. كانت عودته من القوقاز بعد موت القيصر الرجعي نقولا الأوّل، وصعود ألكسندر الثاني، القيصر الإصلاحي، إلى سدّة السلطة. اتّجه تفكير تولستوي إلى تحرير أقنانه الذين يشتغلون في أراضيه، مع خطوات عملية، تمثّلت في إقامة المدارس الابتدائية في الريف لتعليم أطفال الفلاحين.

صدَمَ تولستوي أقرانه النبلاء بتوجّهاته الإنسانية، ولم يُخفِ نقمته عليهم وعلى المجتمع الروسي الذي لم يفهم سبب اهتمامه بالفلّاحين “الجهَلة”، ما دام أن نسبة انتشار الأمّيّة بينهم تعادل 90 في المائة. كان الاعتقاد السائد أن الله خلق العالم قسمين: النبلاء الأشراف المحظوظين، وبقية الشعب من الفلّاحين الذين ينبغي أن يخدموا النبلاء بالعمل في إقطاعياتهم. أمّا النبلاء فلا يشتغلون ولا يتعبون، كأنّهم من جنس مختار، والفلاحون من جنس منحطّ.

لم يكن ضدّ عصره إلّا لأنّه اتّخذ جانب الشقاء الإنساني

سافر تولستوي عام 1857 إلى أوروبا، وكانت أكثر تقدّماً من روسيا، واطّلع على المدارس الأدبية والفكرية، ومناهج التربية والتعليم السائدة، بهدف الاستفادة منها ونقْلها إلى المدارس الروسية التي أنشأها لتعليم أبناء الفلّاحين. لدى عودته، أعلن عن تسخير ثروته وجهوده لتثقيف الشعب وتعليمه، ودعا إلى تعميم تجربته على كلّ أنحاء روسيا، حتّى لو عارضته السلطات القيصرية، فسوف يسير في مشروعه حتى النهاية، ولن يتراجع.

في لحظة غير متوقعة، دهمته أفكار حول عبثيّة الحياة، ولا معنى الوجود البشري، فراح يحسد الفلّاحين البسطاء الذين يشتغلون في أراضيه على قناعاتهم الإيمانية الفطرية التي نشأوا عليها، بريئين من التساؤلات الميتافيزيقية، فالفناء والعدم الذي كان يحسّ به، ويخشاه بعد الموت، لا وجود له بالنسبة إليهم. فارتدّ إلى الدين من جديد، والتزم بتأدية الطقوس والشعائر الدينية، وكان فيها حماية له من إغراء الانتحار.

وجد تولستوي أنه قد لحقت بالدين الكثير من الشوائب على مرّ العصور، فتخلّى عن القشور السطحية واكتفى بالجوهر. تمثّل له الدين في أمرين أساسيين: محبّة الله ومحبّة البشر. واختزل الدين إلى المبادئ الأخلاقية فقط، فالإنسان الذي يفعل الخير بقدر المستطاع ويتحاشى الشرّ بقدر المستطاع هو مؤمنٌ عظيم الإيمان.

تمثَّلَ لديه جوهر الدين في عدّة مبادئ بسيطة جداً: حبّ الآخرين ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والتعاطف مع المظلومين والمضطّهدين وتحاشي الشرّ والإضرار بالآخرين.. ثم محبة الله وطاعته بشكل خاص. هذا هو المبدأ الأساس في الدين.

في عام 1881 سيعود إلى موسكو بعد طول غياب. ليفاجئه الفقرُ والبؤس اللذان يخيّمان على الأحياء الشعبية والضواحي المحيطة بها. فنقمَ على النظام السياسي والاجتماعي السائد ليس فقط في روسيا، وإنّما في العالم كلّه، وراح ينادي بنبذ المُلكيّة، سبب استغلال الإنسان للإنسان، وانتشار الظلم واللامساواة في المجتمع. إذا كانت طبقة الإقطاعيين تمتلك كلّ أراضي روسيا، ومعظم الشعب من الفلّاحين لا يمتلك أيّ شيء تقريباً، فأين العدل إذاً؟

سيُضَمّن أفكاره الثورية في كتابه “ما الذي ينبغي فعله؟”، ويندّد بهيمنة الأغنياء على الفقراء، ويتهم السلطة باستخدام الدين كسلاح لتخدير الشعب من أجل أن يقبل بواقعه المزري، بينما الحياة الرغيدة لطبقة الأغنياء، ومحرومٌ منها الشعب.

لم يكن تولستوي ضد عصره إلّا لأنّه اتّخذ جانب الشقاء الإنساني.

على الرغم من إدانته للنظام الجائر في روسيا، لم يتورّط ويتسامح مع انتشار جماعات الإرهاب الثورية، التي كانت وراء عمليات اغتيال عديدة، كان المنظّرون العدميّون من الفوضويين الروس يبرّرونها بأنّ الشعب يتخبّط في الفقر والبؤس والمرض والجهل، بسبب الحكام الطغاة والفاسدين. لكنّ تولستوي أدانها ورفض تبريرها بحجّة خدمة قضيّة الشعب.