لا يظهر الإرهاب في عالم نظيف، ولا بهذه البشاعة في عالم جميل، ولا يمكن تصوّر ارتكاب أعمال مجنونة في عالم عاقل. يحمل الإرهاب طابع العالم الذي ينبت ويترعرع فيه. على كلّ حال، لم يكن العالم في أي عصر نظيفاً، فالأنبياء لم يظهروا إلا لتنظيف العالم من الشّر، وكان هناك أمل في ذلك بتحريم القتل وتقديس الحياة البشرية.

أدى التعصب إلى استفحال الجنون والغباء، فتُرك العالم لمصيره؛ هذا ما يعتقده بعض الفلاسفة الذين لم يَعدموا قدراً من البصيرة. فقد كان العالم يتقدّم من عصر إلى عصر على وقع لامبالاته بفساد ينخر في عظامه، وبات الإرهاب حقيقة تتوارثها العصور.

اليوم، يبدو ظهور الإرهاب في حياتنا أمراً طبيعياً، لو لم يظهر فالأجدى الاعتقاد أننا في عالم ميت لا يتحسّس العفن الذي استشرى فيه، إلا إذا كان اللامعقول سيطر علينا. لو تأملنا ما يدور حولنا لأدركنا دونما عناء أننا نعيش في عالم موبوء: دول شمولية، ديموقراطيات فاسدة، فروقات طبقية، ثراء لا محدود، فقر بلا حدود، منظمات عنصرية مسلحة، عصابات عالمية تخترق الحدود، مافيات على علاقة بمراكز القرار، أسواق تحفل بالمضاربات والمراهنات، لوبيات دينية، شعوب تحت وطأة الاحتلال، مليشيات مذهبية، فرق دينية دعوية لنهاية العالم، شبكات مخابرات دولية متعاونة ومتداخلة ومتنافسة، مراكز تخطيط وقرار خفيّة، تحالف يضم أصحاب مصالح الصناعات الحربية، مختبرات ومراكز بحوث علمية لإنتاج الموت بأنواعه كافة، وكالات مختصة بصناعة الحرب وتصديرها… وما زال العالم يحفل بالمزيد، وللأسف ما يشق على الحصر، ويتجاوز ما نعرفه.

” ينشد البشر عالماً أجمل وأرقى بأكثر الوسائل إجراماً”

هذا جانب مثير من العالم الكبير الذي نعيش فيه، عالم يتخفى وراء الرفاهية والتخمة والأزياء والتسلية… لكنها لا تستر عورات الفقر والظلم والجوع وضحايا الحروب الظالمة، بحيث يصبح الإرهاب في هذا العالم الظالم، دفاعاً متخبطاً عن عالم مظلوم، يمثّل أسوأ تمثيل المجتمعات المغلوبة على أمرها، المستهدفة من الدول الكبرى والإقليمية، وتنحو إلى استنزاف طاقاتها الاقتصادية وثرواتها المادية والمعنوية.

سنقول مع الآخرين؛ مهما كانت المظالم فلا شيء يُبرر الإرهاب، لمجرد أنه يصيب الأبرياء الذين لا دخل لهم في اختلاق البؤس، إنهم الضحايا الذين ليس بوسعهم حماية أنفسهم منه، ويدفعون أثمانه من أرواحهم. فالإرهاب مثلما يخطئ الوسائل، يخطئ الضحايا أيضاً، وطالما أنه أخطأ الحقيقة والأخلاق والدين… فلن نعدم سلسلة لا تنتهي من الأخطاء، وفي الحقيقة سلسلة من الجرائم.

لذلك لا نتوقع من الإرهاب العدالة ولا الرحمة أو الشفقة، لماذا؟ لأنه نتاج وجود حكومات مجرمة تمنع الحرية وتقمع الكلام وتنشد النهب، فلماذا لا يكون الإرهاب على شاكلتها، قاسياً وحقيراً، قذراً ومنحطاً، إذا انتصر عليها فسوف يكون سيئاً مثلها، بل أسوأ منها.

لكن، فلنتصور عالماً لا يقوم بالدفاع عن نفسه ضد عالم يقوم على سياسات الغبن الضيقة والعمياء، وأنظمة لا تعبأ إلا بمصالحها، تدوس على الملايين وتقتل الملايين وتجوّع الملايين. العالم ليس منفصلاً عن بعضه بعضاً، وليس مجزّءاً، العالم يرى بعضه بعضاً، الحرية والعدالة والمساواة للعالم كله، وليس للأميركان والأوروبيين وحدهم، ولا يجوز أن يتمتع شعب بالتخمة، بينما يجوع شعب ولو في أقاصي الأرض، البشر كتلة واحدة. بينما السياسات الممارسة تنحو إلى تمزيقهم، في زمن يجمعهم.

المفارقة أن البشر ينشدون عالماً أجمل وأرقى، بأكثر الوسائل إجراماً ووحشية وتدميراً. إن عالماً على هذه الشاكلة، لو لم يستدع الإرهاب، لكان عالماً خاملاً مريضاً تافهاً مآله إلى الموت. الإرهاب ناقوس يقرع أجراس الخطر. أما الخطر، فليس سوى فناء البشرية.