لا تختلق مقاربة السياسة إشكالاً إلّا في الأدب. الاعتراض جوهري، وهو أنّه لا يجوز، مثلاً، توظيف الرواية للسياسة، فهي ليست داعية للسلام ولا للحرب، ولا تتحيّز للمقاومة أو للاستسلام. هذا شأن سياسي، ابتلينا به في زمن الواقعية الاشتراكية، عندما جُيّرت الواقعية في الأدب للاشتراكية والصراع الطبقي والمطارق والمناجل من جانب، ومن جانب آخر إلى هجاء البورجوازية، والجشع الإمبريالي، وبذخ الأثرياء. لم تخلُ الرواية الاشتراكية من المباشَرة والتوجيهات الحزبية، فتقولبت في داخلها الشخصيات، فكان الإنسان الاشتراكي بطلاً إيجابياً وإنساناً مثالياً وشخصاً طيّباً، وكُرّست لانتصار الشيوعية، وحَدّدت مسار المستقبل إلى مجتمع بلا طبقات، ما أساء إلى الأدب، مع الافتقاد إلى الفنّ.
هذه ليست دعوة لكتابة أيّ نوع من الرواية، أو تحيّزاً للسياسة أو الأدب، وإنّما لبيان ألّا تعارض بينهما، وما اختلاق هذا التناقض إلّا لتقييد الكتابة. وما هذه المناقشة إلّا محاولة افتراضية حول ما يطرحه تساؤل كهذا، لأنّ مجرّد ذكر السياسة يُحيلنا تلقائياً إلى الأيديولوجيا التي اكتسبت سمعة سيّئة قبل عقود، ما ذهب بالأدب إلى الفوبيا من السياسة، مع أنّ ما جرى التحذير منه هو الأيديولوجيتان الشيوعية والرأسمالية في الحرب الباردة.
الأيديولوجيا منظومةٌ فكرية على صلة بالسياسة، قد تعتمدها الدول كما جرى خلال احتدام الصراع العالمي بين الكتلتين الغربية والشرقية، وترويج كلّ منهما لأيديولوجيته. لئلّا نحصرها في الدول فقط، يمكن القول إنّه في داخل كلّ منّا أيديولوجيا مصغّرة، هي أوسع بما لا يُقاس من أيديولوجيات الدول، تحتوي ما نحمله من أفكار ورؤى وتصوّرات ومبادئ وتجارب هادية لنا، إذ لا إنسان يعيش من دون منظومة خاصّة به يسترشد بها عن وعي أو لاوعي، أكانت على خطأ أو صواب أو بين بين، تتّسع لمفاهيم اجتماعية وسياسية وأخلاقية ودينية، سواء في حالة ركود أو ثبات، أو حيوية في حالة اختبار، عموماً تطرأ عليها متغيّرات.
لا أيديولوجيا سوى الإنسانية يصحُّ اعتناقُها
في الأدب، يتّكئ الكاتب في أعماله على منظومة أفكار، ليس ثمّة رواية تخلو منها، وكلّما كانت تعود إلى الروائي، منحت عمله خصوصية وثراءً وعمقاً، ينعكس على تفسير أبعاده وآفاقه.
في حال توقّفنا إزاء ما يواجهنا من مقولات جاهزة عن الأيديولوجيا أو السياسة، وإشهار الاتهام ضدّهما، فلا تزيد هذه الادّعاءات على فرض رقابة مسبقة تمنع الكتابة، خشية منها، مع أنّها لا تعدو أن تكون وساوس تُزرع في الأدب، ما دامت تعمّم وتَعتبر التحذير منها مفروغاً منه بلا تحديد، بينما المقصود الأيديولوجيات التي ثبت تسلّطها على الأدب، واستغلالها له، وهو ما يتهرّب منه نقّادها. لو نظرنا إلى الخلف، لوجدنا أنّها صناعة أنظمة دكتاتورية شمولية واتجاهات رأسمالية، بدعوى إنهاء العلاقة بين الأدب والسياسة، فالأدب مجرّد فن، بينما لو تأمّلنا الكتابة بصفتها فنّاً، لم نجد حتى الآن تعريفاً لهذا الفن، إلى حدّ بات استغلال غموضه وسيلة للتستّر على تقصير الأدب.
عندما خرج الشبّان في الربيع العربي، طالبوا بإسقاط الأنظمة، كان من مظاهر الحرّية أنّ مئات الروايات كُتبت في تعرية الأنظمة وهجائها، وأساليبها في القمع والقتل. وظهر كتّاب شكوا من افتقادها إلى الفن، وهو صحيح إلى حدّ ما، وليس بإطلاق. وإن كان بعضهم في الواقع ناقمين على كشفها عن أنظمة مجرمة. بينما الفن، كي لا نغالي، وندخل في متاهة مفتعلة، هو أن نكتب رواية جيّدة، فالفنّ ينبع من داخلها، ولا يأتي من خارجها.
لا نقصد الدفاع عن أيّ رواية مهما كانت، فالأدب لا تهاوُن في صناعته، لكن لا يجوز إيراد الاتهامات الملتبسة ولا تعميمها. فلندَع الكتّاب يكتبون بحرّية، ولن يتأخّر الأدب. لماذا؟ لأنّنا ندرك علاقة الكتابة بالحرّية، وعدم لجمها وقمعها بأيّة دعاوى، سواء الجنس أو الدين، وكذلك السياسة. ولا يغيب عنّا أنّ أصل المنع في جوهره سياسي، ومن يفرضه سلطة سياسية.
ما يجب أن نكون على ثقة منه، ما دمنا نكتب عن الإنسانية، وعن كرامة الإنسان، فلا أيديولوجيا سواها يصحّ اعتناقها.
-
المصدر :
- العربي الجديد