في رواياته الثلاث المتتالية بعد عام 2011، يعمل الروائي السوري فوّاز حداد (مواليد دمشق 1947) للولوج إلى قطاعات المجتمع السوري، ليرصد علاقة كلّ منها مع تقلّبات الوضع السوري التي أزهرت في الربيع ثم تداعت إلى جحيم. ففي “السوريّون الأعداء” (2014)، نلج من خلال العسكري الضابط في بنية النظام وآلياته الخفية في الصعود والانحدار، كذلك الطبيب ومأساته في معاناة دورة العنف في المعتقلات طوال ثلاثة عقود، وشخصية القاضي الذي يمثّل رجل القانون في تعامله مع عدالة كانت في حالة عطالة مطلقة، يُسيّرها الفساد في قطاع الحقوق المستباحة.
أمّا في “الشاعر وجامع الهوامش” (2017)، فلدينا الشاعر المثقّف المتورّط في مهمّة لحساب النظام، والضابط الذي يريد الاستيلاء على الدين كأداة سيطرة على عقول الناس، والمثقّف العضوي الذي ينتزعه النظام من العسكر ويستأجره لاستحداث دين يؤدّي إلى معادلة تساوي بين الله والنظام، وكذلك رجل الدين المتنوّر الرافض لتجيير الإسلام والطائفية في الحرب.
وفي روايته الأخيرة “تفسير اللاشيء” (دار رياض الريّس/ 2019)، يختار حداد العمل في مناخات أخرى، تحيلنا إلى تيارات العصر من فكر وفلسفة وتاريخ وفن، من خلال أستاذ جامعي، وفنّان تشكيلي، ومُنظّر سياسي.
يفشل تفاؤل الأكاديمي “صاروف” باتّجاه البلاد نحو الأفضل رغماً عن النظام والمعارضة، فيجبره انتشار العنف على التحوّل إلى الفلسفة بحثاً عن الطمأنينة. بعد جولاته الخاسرة مع الإنسانية، يصبح الفكر الماورائي ملاذه الوحيد، ليعيش العزلة الداخلية الآمنة، رغم أصوات قصف البلدات القريبة ومظاهر القمع اليومية.
“�ترصد الرواية تحوّل المثقّف الفاعل إلى عاطل وعدمي�”
يرصد الروائي عبر حكاية “صاروف” تحوّل المثقّف الفاعل إلى مثقّف معطّل عن الفعل، بابتكاره حالة “اللاشيئية”، ومحاولته الاستعانة بكل ما هو بمتناوله، سواء الغيبيات أو علم النفس أو طرائف المنوّعات، وربما السحر الأسود، تحت تأثير أزمته مع زوجته، فيفقد العالمَ الذي اعتاد عليه، ويتعلّق بالفكر المتعالي على البشر: “صار يشيد باليأس، ويتسلّى بفناء العالم، وانتصار الشر، واختفاء البشر، وانتهاء الإنسانية، كان يريد تخريب صلته بالحياة، ونزع أية قيمة عنها. اعتقدَ أنه سيصبح أقدر على فهم العالم ورفضه”، وكأنه اختلق وصفةً مفيدة للعزلة، تقوم على اللاجدوى واللامبالاة. يبدو فيها انتهاء التاريخ، الحل الأمثل لنهاية العالم.
العلاقة بين الفكر والفن والقضايا الاجتماعية والسياسية هي موضوعة أساسية في الرواية، فإن كان المفكّر يتحوّل من الفاعلية إلى الحياد السلبي المهلك، فإن حكاية الرسّام “ماهر” تتطرّق إلى دور الفن. نحن أيضاً أمام رسّام قاده التأثّر بالفن الطليعي إلى فن التشويه، ومن بعده مرحلة الجسد “المفشكَل”، كما يغوص في محاولات رسم العري والوضعيات الجنسية التي يعيشها مع زوجته.
تبرز الكاريكاتورية في مسيرة الفنّان حين الحديث عن آخر معارضه، في اختياره أسلوب التجريد لأنه قادر على إرضاء كلّ الأطراف. ففي عيون جمهوره من المعارضة، جعل الأحمر رمز الدم، والأبيض رمز الأمل، بينما في عيون جمهوره من النظام رمز بالأحمر إلى دماء جنود الوطن، وبالأبيض إلى عودة السلام والأمان إلى البلاد. أمّا هؤلاء الذين لا يعبأون بالثورة والجيش والكارثة، فكانت تشكيلة الكتل اللونية والخطوط في لوحاته حافلة بالإيحاءات الجنسية. يسخر فوّاز حداد من الفن القادر على أن يقول كل شيء ولا شيء، لإرضاء جميع الأطراف، فنّ في جوهره بلا قيَم أخلاقية.
يدخل صوت الراوي مباشرةً لوصف حال المثقّفين منذ الثورة السورية حتى اليوم، من خلال مناقشاتهم في المقاهي والجلسات، أهو الإيمان بالدين، أم الإيمان بالحرية، ما دفع الناس للخروج إلى الموت في التظاهرات؟ ومع استمرار العنف، يتقاعد ويتراجع دورهم ويتلاشى، ليصبحوا على هامش المجتمع، فيصف الروائي السجالات القائمة بينهم بالسجالات التي لا تنتهي إلّا بعد توزيع بعضهم الاتهامات على بعض، بخيانة الثورة، وشتم الإسلاميّين، والعمالة للنظام والروس والإيرانيين والأتراك والسعودية والأميركان.
تبرُز “تفسير اللاشيء” كرواية راغبة في طرح مناقشة عميقة عن موضوع ماذا عن المثقّف والفنّان في المرحلة الحالية، السياسية والاجتماعية، من التجربة السورية؟ هذه الموضوعة برزت أيضاً في رواية حداد السابقة “الشاعر وجامع الهوامش”، لكن الثيمة التي تتفرد بها روايته الجديدة هي عن كتابة التاريخ السوري، أو ما يمكن أن نسمّيه صراع السرديات.
في القسم الأخير من الرواية، يبتكر المؤلّف شخصية مثقّف مهتم بالتاريخ “سالم”، وتحت عنوان “سقوط التاريخ”، نفهم أن النظام قد بدأ يكتب التاريخ، منذ بدأت الدول العالمية تعيد تأهيله، كل ما جرى في سورية هو حرب على الإرهاب، يبدو أنها السردية التي تريح كل القوى السياسية التي تحكم العالم.
“�تسخر من الفن القادر على أن يقول كل شيء ولا يقول شيئاً�”
يصفعنا المؤرّخ “سالم” بالبراهين المتتالية بأن التاريخ لا يأبه للضحايا: “إذا كنتم ستأخذون شهادات الناس، فلن يرى تاريخكم النور، التاريخ ليس قصّة دموع ومناحات، ولا قصصاً شخصية، ما الذي تصبو إليه هذه الشهادات، وما فاعليتها؟”، يمثّل “سالم” ذلك الرأي الذي ينزع عن التاريخ صفات العدالة والأخلاقية، ليضعنا أمام تاريخ غير عادل، لا يأبه للحقيقة: “بل إن الزيف الذي ينظر إلى المستقبل، أفضل من الحقيقة التي تنظر إلى الماضي”، لا محلّ للشعب ولا للإنسانية في أدوار التاريخ: “الحقيقة الوحيدة: القوّة تتحكّم بالعالم، هذا هو التاريخ”.
عبر سرد حكاية مثقّف فاعل يتحوّل إلى العدم، وحكاية فنّان تشكيلي يهرب من القضايا الإنسانية إلى التجريد، وبعدها بالتطرّق إلى صراع السرديات، تحمل رواية “تفسير اللاشيء” وصية مضمَرة للمثقّف والفنان، بالدعوة عبر الإبداع والفن إلى كتابة سردية للثورة والحرب، لئلا يُترَك التاريخ للمثقّفين المأجورين، إذ لا يجوز إغفال الضحايا؛ التاريخ مسؤولية أخلاقية.�مثلما في التساؤل عن دور المثقّف مسؤولية لا تهاون فيها: أين موقعه، خارج العصر أم داخله، في التاريخ أم خارجه؟ وإذا كان قد ارتضى الهامش، فالسؤال: هل مهمّة المثقف الكلام والأمان، للخيانة وجوه كثيرة، هذا أحدها.
تضعنا الرواية في تيارات العصر وإشكالاته، جنونه وحماقاته. إنها عن العالم إذ يتحوّل إلى لا شيء، والدأب على تفسيره المرّة تلو المرّة.
-
المصدر :
- العربي الجديد