بدت الثورة في انطلاقتها كإعصار جارف، عندما عمّت الأراضي السورية، وحافظت على اندفاعتها طوال أكثر من عام، رغم ما أصاب ثوارها وناشطيها من تنكيل وقتل وتعذيب، ثورة لا تراجع عنها، وإن تراخت قليلاً بالاعتماد على دعم خارجي طالبت به، بالتوازي مع الدعم الذي يحظى به النظام. لكن ما آلت إليه خلال الأشهر الأخيرة، بعد التراجعات المتلاحقة التي أصابتها، لا يمكن تفسيره بالسياسات المتعثرة غير البريئة لأصدقاء سوريا الذين أطلقوا التصريحات المؤيدة والتهديدات ودعوا إلى تزويد الثورة بالسلاح، ثم انقلبوا عليها بالاستناد إلى منظوماتهم الديموقراطية، امتثالاً لاعتراضات الكونغرس والبنتاغون ومجلس العموم والرأي العام… على عكس ما تمليه عليهم استراتيجياتهم في المنطقة، ما يحيل التأييد والتنكر له إلى لغز مفضوح، بحيث تبدو المؤامرة هي الأقدر على تفسيره.. ليس هناك أفضل منها لتنطوي الأهداف الاستراتيجية تحت جناحها بكل اطمئنان وسلام.
اليوم بات هذا الحديث من الماضي السحيق، الواضح تكريس الفوضى، وقد تدوم طويلاً، لفترات تطول وتقصر حسب رعاتها الدوليين، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بتطويق ساحة الحرب، وإبقائها مشتعلة، بتزويدها بالمقاتلين إضافة إلى السلاح، فالنظام السوري الآيل إلى السقوط، أنقذه تدخل حزب الله والإيرانيين والطائفيين من العراق. وعلى الخط المقابل،استمرار قدوم الجهاديين من البلدان المجاورة والبعيدة. ما بات يشكل المنحى الفعال لعدم امتداد الفوضى إلى الخارج، والتحكم بفوضى الداخل، بتكريس المشهد السوري على استنزاف الأطراف المتحاربة، لزمن غير محدود، وزجهم في حروب طائفية عبثية، لا يخرج أحد منها حياً، على الجميع الموت دفاعاً عن أديانهم، تأكيداً على صوابية مذاهبهم، وكأنه أمر يمكن أن يتحقق، لكن لابد من المحاولة.
هذا المشهد تقدم على السيناريوهات المتوقعة. ومن الطبيعي أن تحوم الشكوك حول ضلوع الغرب وأميركا في إخراجه وترتيبه على أساس فيلم طويل، بعدم منع قدوم الجهاديين إلى سوريا أو إدانة مشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام. ما يفسر سهولة استدراج الطرفين المتحاربين كل منهما للآخر، فالذرائع متوافرة، كان ينقصها السماح، فوفرها العالم لهما، بصمته المدوي، وأيضاً ببعض التسهيلات، لولاها لما كانت هذه الحرب تبدو في مرحلة السبات على قتال لا يجدى التقدم فيه ولا التراجع.
المزعج في هذا المشهد، مئات آلاف النازحين إلى تركيا والأردن ولبنان والعراق، ما اضطر المجتمع الدولي إلى المشاركة في معالجة الأوضاع الانسانية المتدهورة داخل سوريا وخارجها بالمساعدات الاغاثية، للتخفيف من احتجاجات الدول المضيفة. فلم تعد الأزمة السورية تثقل الضمير الانساني. ما دام العالم مستعدّاَ للدفع. أما الغاية، فأن يعتاد اللاجئون حياتهم في المخيمات، بتقديم العون لهم بحيث لا يموتون جوعاً، ما يضمن استمرار الحرب في الداخل، دونما منغصات خارجية ملحة. وبما أنها تتطلب المحافظة على هذه السوية، فالحرص يملي عدم تمكين النظام ولا المعارضة المسلحة من تحقيق نصر نهائي، في حرب الكر والفر، ما يربحه طرف هنا يخسره هناك. أكثر من محلل سياسي قال إن هذه الحرب قد تستمر عشر سنوات أخرى. المحلل الاسرائيلي العليم بشؤون المنطقة حدّدها بخمس عشرة سنة.
هل هذا تصور مجحف؟ للأسف الحرب ماضية على هذا النهج، لو كان العالم جدياَ، لأدرك أن استمرارها وصمة في جبين البشرية. وبادر إلى وضع حد لها، وفرض حلاً إنسانياً، يوقف القتل. هذا المشهد يوماً بعد يوم يصبح عادياً، ومع الوقت لن يزيد عن خبر يومي، ما دامت الحرب تسير على نحو مضبوط، أرقام القتلى لا تتجاوز المئة، قد تعكرها مجزرة من وقت لآخر. حركة النزوح والنزوح المعاكس، عند حدود معقولة، متعادلة لا تزيد أو تنقص، لا تتباطأ ولا تتسارع، بايقاع منتظم، لا تُفتقد في حال حضرت على شاشات التلفزة أو غابت، بل وبدأ المشهد يأخذ الحجم المرغوب فيه، بتغييبه عنها، فالحدث الذي كان الخبر الأول، تراجع إلى الثاني والثالث… ولن يقفز إلى الأول إلا في حال اختراق، حققه النظام مؤخراً باستعمال السلاح الكيميائي، الذي أضيف بشكل فاضح إلى الحرب الدائرة، ومع تكرار استعماله، وعدم انتهاء المهازل الروسية في ابتداع المبررات، وانخراطه في متاهة الأخذ والرد، فالكيميائي سيدخل إلى هذا المشهد ويصبح جزءاً ثابتاً فيه، ما يسوغه أنه سينهي القتال الذي طال.
-
المصدر :
- المدن