يُعتقد ـ وهو اعتقاد شائع – أن القيم في عصرنا في حالة انحطاط، إلى حدّ لم يعد بالوسع الحديث عن القيم التي نعرفها، وكأنها رحلت مع القرن الماضي. ما حال الصدق والصداقة، النزاهة والكد في العمل، الاحترام، المسؤولية، والتكافل الاجتماعي، في عالم طغت فيه المصالح الفردية على الطموحات الجماعية.
لم تتسم القيم بالثبات إلا لأنها انتقلت إلينا عبر كيانات راسخة في المجتمع؛ الأسرة، المدرسة، الدين، الجامعة. لهذا تبدو المطالبة بالعودة إلى القيم الأصيلة ذات مبرر، بالمقارنة مع ما تحمله الأجيال الجديدة من قيم مضطربة غير مستقرة، تلقت تصوراتها عنها من وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، ومؤثّري الإنترنت. هل تصلح لإدراك ما الصواب وما الخطأ، أو تمييز الجيد من السيئ؟ في الواقع، هناك جائحة زعزعت القيم ينبغي الاعتراف بها.
يمكن القول إننا نعيش في عصر الإعلام البصري، ومن الطبيعي أن تساهم بشكل ما في تغيير طبيعة تفكيرنا. على سبيل المثال، تميل طبيعة الإعلام الجديد إلى السرعة والاختزال، ما يؤثر في تناول الأفكار التي تحتاج إلى العمق، وجدية التفاعل مع أوضاع معقدة، في ظل تدفق المعلومات والآراء، وانتشار ما يُعرف بشطارة ارتجال الرد السريع، ما يخلق بيئة تهمّش الحوار الحقيقي، وتُعلّي من قيمة الانفعال من دون تبصّر.
إن من أبرز القيم المستحدثة التي باتت تؤثر فينا أنه لم تعد ثمة قيمة للعمل الجاد، لتُكسب الانسان مكانة حقيقية، بل أصبح الظهور اللافت والمبهرج هو معيار النجاح. يمنح صاحبه هالة من الرفاهية الأخاذة بنشر صور خلابة لنشاطاته الاجتماعية، حتى لو لم يكن يملك خبرة حقيقية أو ذخيرة معرفية راسخة.
بينما تأثرت خصوصية الانسان سلباً، فالملاحظ أن المنصات الرقمية تشجّع الأفراد على مشاركة غيرهم تفاصيل حياتهم اليومية، تلك التي كانت تُعتبر أموراً شخصية أو عائلية، إلى حد تشجيع التعرّي لمجرد التعري، كدليل على التحرر من شكليات الملابس، بحيث تصبح الخصوصية شيئاً ثانوياً، غير مرغوب فيها، ما دام المقابل التفاعل والإعجاب، رغم ما تنطوي عليه من إهدار للخصوصية نفسها.
أصبحت الشهرة في حد ذاتها هدفاً يُسعى إليه، أحياناً بلا مضمون أو هدف جوهري
كذلك في السابق، كانت الشهرة مرتبطة بالإنجاز، سواء في العلم، أو الأدب، أو الرياضة، أو النضال. أما اليوم، فقد أصبحت الشهرة في حد ذاتها هدفاً يُسعى إليه، أحياناً بلا مضمون أو هدف جوهري، قد تتحقق بالإطلالة من منصات رقمية مثل “تيك توك” ما يسمح لأي شخص من دون عناء تحقيق فوز سهل يكافئ عليه بانتشار واسع في وقت قصير، لمجرد سلوك جريء أو غريب، أكثر من سلوك مسؤول أو متّزن.
كما لم تعد مهمة الإعلام نقل الأخبار، وإنما اختيارها وتوجيهها والترويج لها، من خلال ما يُبثّ في الأفلام، والمسلسلات، والإعلانات، فيتم زرع قيم جديدة حول الجمال، النجاح، الرقي، وحتى الأخلاق. فيمكن مثلاً، تصوير الاستقلالية عن الأسرة أو العلاقات العابرة غير المستقرة كأمر طبيعي أو حتى مرغوب بها، ما يؤثر تدريجياً على تصورات الأفراد حول معنى الالتزام بشكل عام، أو الانتماء إلى العائلة.
تفرض هذه التحولات ضرورة إعادة تعريف القيم بما يتناسب مع روح العصر، غير أن ما نحتاجه هو وعي نقدي في حال إعادة تشكيلها، بحيث يمكن التمييز بين التقدّم والتحلّل، وبين التحديث والتلفيق. فالقيم الحقيقية ليست تلك التي تبقى جامدة، بل التي تنجح في الصمود والاتساق مع متطلبات البشر.
إن القيم ضرورية في عصرنا، كما في كل عصر، كأرضية للتواصل والتعايش، وكإطار نحتكم إليه في مواجهة الأزمات والتحديات المتزايدة، في عالم يفاجئنا، ولا يكفّ عن التغيّر.
-
المصدر :
- العربي الجديد