شكّلت الأنظمة المنتصرة على شعوبها في المنطقة مادّةَ إلهام وفيرة، ونهجاً جديراً بالاقتفاء للأنظمة العربية الأخرى وغيرها في العالم، المتطّلعة بإعجاب إلى أنموذج الدولة الشمولية، رغم المحنة الكبرى التي اجتازتها، وكادت أن تلفظ أنفاسها مراراً، لولا مساعدة دول مجاورة ودول كبرى. وفازت بالبقاء ليس إلى مستقبل قريب أو بعيد، إذ لا حساب للزمن؛ فالأنظمة الشمولية تتطلّع إلى الخلود.
ومثلما كان قمع الربيع ملهماً للأنظمة، كانت الانتفاضات ملهمة للشعوب على الرغم من إخفاقاتها، وتضحية مئات آلاف الشهداء، وتهجير الملايين، وخراب البلاد… كانت درساً لشعوب المنطقة ألّا يفكروا بالانتفاض ضد حكّامهم، مع هذا فاجأت انتفاضات الجزائر والسودان العالم، ولم تتخلّف عن رفع شعارات الديمقراطية والدولة المدنية. الشعوب لم تتراجع، مع أن الزمن ليس في صالحها، طالما الظروف الإقليمية والدولية ضدّها، والدكتاتوريات تستعيد شبابها، والضبّاط يتوارثونها. هذا هو التاريخ يعيد نفسه، ليس كمهزلة، وإنما بصورة وحشية، لا تقلّ عن تراجيدية مقيتة.
اتّجهت دول المنطقة خلال العقود المنصرمة نحو أنموذج الزعيم الأوحد، فكان القذّافي وصدّام وصالح والأسد. بينما في الدول الأخرى، تعرقل الأنموذج، لم يدركوا أن الاستفراد بالحكم يعتمد على من ينتزع الزعامة؛ القائد الأكثر دموية الذي لا يتأخّر، ولا يتردّد في القضاء على رفاق دربه بالموت اغتيالاً أو إعداماً أو بالسجن، ما يؤهّله للاستيلاء على بلد، لا تكلّفه السيطرة عليه سوى الوعود بتوفير العيش الكريم، تحت رايات متبدّلة، قومية، اشتراكية، المقاومة، الممانعة… لكن مضى زمانها، طواها الربيع العربي. بات الاعتماد على ما تنجده بهم شركات العلاقات العامة.
” مع الطغاة يعيد التاريخ نفسه ليس كمهزلة بل بصورة وحشية”
تدرك الدكتاتوريات الإقليمية أن البقاء لبضع سنوات أو عقود، لا يكفي طالما الأبد متوفر، والتطلّع إليه مشروع. انتصار الزعيم غير كاف وحده، فالأبد يعني التوريث، ولا عبث في المراهنة عليه، ولو كان الحكّام عاقرين، فالحكّام يلدون أولاداً، ولو لم يكونوا من صلبهم. تحقيقه ليس معجزة، هناك نظام بالرغم عن أنف الشعب.
ترى ما سر عداء الدكتاتور لشعبه؟
واقع الحال كما يراه، لا يخفي أن الشعوب مخادعة، تستحيل الثقة بها، إنها البؤرة الصالحة للتآمر وإنتاج المعارضين. تعتصم بالصمت، وتكتم نوازع الكراهية، وإذا أطلقت مشاعر المحبة، فرياءً ولو في مظاهرات التأييد، ما دامت تُساق إليها بالقوة. لا يحتاج إخضاعها إلى عقل جهنمي، وإنما إلى أجهزة مخابرات تدرّبت في دول شمولية، ما يشكّل رصيداً هائلاً من الخبرات، تتبادلها الدول، وتنتقل من جيل إلى جيل.
هذه الصورة المكرّرة للصراع بين الحكّام والشعوب، مرشّحةٌ للبقاء خلال السنوات القادمة، تتجلّى في ارتفاع منسوب الأحقاد بينهما، فالشعب يكره الدكتاتور، مثلما الدكتاتور يحتقر شعبه، بينما يتسلّل يقين التوريث ويترسّخ، كهدف بات مقياس الاستمرار، يواكبه تشغيل آلة القمع إلى حدودها القصوى، فالموت في المعتقلات بات الأكثر فاعلية.
من حسن حظ الشموليات أنها لم تعد تحتاج إلى أيديولوجيات بعدما استُهلكت وانتُقدت ورُذلت ودُفنت، فالرئيس يكرَّس على أنه نجم، حسب خطّة عمل تُقدّمها وترعاها شركات العلاقات العامة في كل خطوة: تناوله الطعام، تجواله بسيارته أو مشياً على الأقدام، تواضعه في الكلام، أناقته في الملبس، ابتسامته المرسومة، أسلوبه في الضحك، تشدُّقه بالمفاهيم الإنسانية، إلقاؤه الدروس في كل شيء… ما يشكل كارزمية ولو كانت تافهة، وجاذبية ولو كانت مهلهلة… لكنها مظاهر لافتة، جديرة بالحب، إن لم يكن بالعبادة، للموالين له، حتى لو كان الرئيس بشعاً وسمجاً، سواء في شرخ الشباب، أو قارب الثمانين أو التسعين من العمر.
-
المصدر :
- العربي الجديد