انتهى التاريخ عام 1989، مع سقوط جدار برلين، وكان من المفترض أن يمضي العالم بلا تاريخ، بعدما تَخَفّف من صراع استمرّ ما يزيد عن نصف قرن بين الاشتراكية والرأسمالية، ولكنّه كان في الحقيقة بين الدكتاتورية والديمقراطية، واستتبّ النصر للرأسمالية الظافرة.
كان من المفترض أيضاً ألّا يبدأ تاريخٌ جديد، لكنْ كان لا بدّ من مرحلة مؤقّتة، على النهج السابق، لتصفية العالم من التاريخ القديم ــ وهو تاريخٌ مخيف ــ لئلّا يؤثّر في قادم القرون بطغاةٍ ومآسٍ يجب لفظها، ولئلّا تُستعاد في عالم سيغدو نظيفاً، بلا تاريخ يؤرّق الضمير، فقد احتوى هذا التاريخ على حروب ذهبت بالملايين وارتُكبت فيها أبشع الجرائم؛ وعلى دكتاتوريات فظّة لم توفّر شعوبها من القمع والقهر؛ وفلسفات عِرقية ابتدعها مجانين لتوفير ذرائع للهيمنة والقضاء على ما اعتبروه الآخَرَ المكروه؛ وجواسيس خونة؛ وأسلحة نووية لتدمير المدن وحصْد أعداد هائلة من الضحايا. هذا التاريخ الأسود، كانت الإنسانية بغنى عنه. لكنّ المشكلة أن البشر يحرّكهم الطمع أكثر من القناعة.
بعد سنوات، ظهر أن التاريخ لم ينتهِ، وأن التاريخ الموعود لم يبدأ. بل بدا وكأنه يعيد نفسه، ليس الذي قُلبت صفحته، بل التواريخ بأنواعها، وكأن البشرية أصبحت في مهرجان، إنْ لم نقل في معرض، تنتقي منه ما تشاء، فذهبت بها الأحلام إلى التواريخ المنسية: هل تُستعاد؟ بعضها ذهب إلى عالم من أحلام السعادة، وبعضها الآخر إلى أحلام تُحيلها إلى إبادة شعوب بكاملها. ذلك هو الخطر. عندما لا تكون الأحلام إلّا كوابيس.
يعتقد كّل بلد أنه يتفرّد بتاريخ مستقل، يميّزه عن غيره. فنزعة التفرّد تُحرّره من التاريخ الموحّد إلى تشكيلة متنوّعة، تُعيده إلى القريب، والأبعد فالأبعد، وحسب كلّ بلد. ففي روسيا على سبيل المثال، وجد الحاكم أنه ليس من المعقول استعادة تاريخ انتهى لتوّه، أو مضى عليه بضعة قرون، ويكفي قرن واحد منه فقط، وبذلك وفّرت روسيا على مفكّريها وقادتها التوغّل نحو الماضي، بالتقدّم نحو المستقبل، مسلّحةً بالماضي القيصري، الذي كان بريئاً نوعاً ما بالقياس إلى الماضي البلشفي، ولم يعدم برلماناً حقيقياً وبعض الحرّيات، وكان قابلاً للإصلاح، بينما البلشفي، فلا برلمان فيه ولا حرّيات، وهو غير قابل للإصلاح.
ذلك هو الخطر: عندما لا تكون أحلام البشرية إلّا كوابيس
على النهج نفسه تجنّبتْ دولٌ مجاورة قصّة المستقبل المُكلِفة، فاستعادت الديمقراطية بلبوس الفرسان والنبلاء، على أمل استرجاع عراقتها وفرادتها التاريخية، بينما كانت ترزح في العجز والفقر، ما أدّى بها إلى الانضواء تحت هيمنة البلدان الغنية، فتأجّل العثور على مستقبلٍ في الماضي والحاضر.
كانت ثمة بشائر طيبة لشعوب البلدان الشمولية، التي اعتقدت أن حكوماتها سقطت مع الجدار، لكنّها لم تسقط، كانت تنتظر فحسب، ووجدت منفذاً بالمُراوحة في الحالة الدكتاتورية، فالعودة إلى الوراء ليست إلّا البقاء في المكان. أمّا شعوبها، فسرحت أحلامها في التاريخ، فالقريب كان زمن احتلال، ولم يكن بهذا السوء، ما أدّى إلى تغاضيها عن الزمن الاستعماري، فأصبح طلبُ الاستعمار ضرورة خلاص، طالما الدكتاتوريات لم تقم بالتقدّم المرجوّ من وعودها، بل اتجهت إلى نهب بلدانها، فبات الاستعمار مرحّباً به، بل ومطلوباً، حمايةً من لصوص الداخل، وأيضاً من الجوار. فالبلدان العربية الخائفة من “الإخوان المسلمين” والإسلام، والملالي الفُرس، استجارت بالأميركان، الذين اعتبروا أن الاحتلال فات أوانه، ويشكّل عبئاً عليهم، فضلاً عن سمعته السيّئة.
لا نخطئ إذ نقول إنه انتقام التاريخ الذي ظننّا أنه انتهى ولن يعود. لقد أهملناه فعاد، وليس الخلاص منه بالسهل، فالمراجعة لم تُفْضِ إلى التخلّص من ذيوله، ولا من صانعيه، ولا من نتائجه، وهي من دون تزيُّد ثلّة من الشموليات التي لم تسقط، ونجم عنها لصوصٌ لا يعرفون من الدولة سوى النهب.
كان الخطأ في الاعتقاد بأنه زمن تأبّد. لكن إذا أحسنّا فهم التاريخ، فهذا زمنٌ سيمضي، ذلك أن الطغاة، مهما كانوا أقوياء، لكنّهم تافهون، والدكتاتوريات مهما كانت قوية، لكنّها هشة. أجيال من البشر دفعوا الثمن باهظاً، لم يكونوا عابرين في حياتهم، أخذت الدكتاتوريات أعمارهم وأزهقت أرواحهم. هذا تاريخٌ يجب ألا يعود. ضحايا الدكتاتوريات لا يموتون، ولو أصبحوا رماداً.
-
المصدر :
- العربي الجديد