منذ بدأت البشرية تفكّر، أخذت تُطلِق الشعارات، ما شكّل نوعاً من النضج المبكر في إدراك ضرورة الإيجاز؛ فالشعار عبارةٌ عن بضع كلمات تلخّص توجُّهاً أو أملاً أو طموحاً أو منهج عمل، تعمل على تركيز الجهد الإنساني في كلمات معدودات. ومثل كلّ شيء شهدت صعوداً وهبوطاً وتدهوُراً، وكان أشهر شعار وأكثره تعبُّداً وقدسية وعلوّاً هو الثالوث المسيحي (الأب والابن والروح القدس)، كان الأكثر ديمومة، تلهج به ألسنة المؤمنين المسيحيّين في صلواتهم، جرت المحافظة عليه رغم أن الكنيسة الكاثوليكية أعطته وجهاً إنسانياً بثالوث معتبر أيضاً، وهو (الإيمان والأمل والإحسان)، كان رديفاً له، لكنه لم يُغْن عنه.
لم تظفر عصور الإيمان بالاستقرار، ولم تكن دائماً في خير حال، فالثورة الفرنسية رفعت شعاراً أعطته تطلُّعاً دنيوياً عنيداً، دُعي بالثالوث الفرنسي وهو (الحرية، المساواة، والإخاء) اختزل مبادئ الثورة الفرنسية، أثبت مفعوله باقتحام الباستيل وإسقاط الملكية وانتصار الثورة، وغزو أوروبا، وتحت لوائه جرى اقتحام الكنائس واضطهاد الرهبان. وإذا كان للشعارات الدينية معجزاتها، فقد أرسلت قادة الثورة الفرنسية الواحد بعد الآخر إلى المقصلة تحت ظلال الثالوث نفسه (الحرية، المساواة، الإخاء). وما دمنا في فرنسا، بعد احتلال النازيّين للعاصمة باريس وقيام حكومة فيشي، صاغ المارشال بيتان شعار فرنسا الجديد تحت الحكم النازي فكان (العمل والأسرة والوطن)؛ ففرنسا التي حرّرت أوروبا في الماضي، أرادت بعد استسلامها لهتلر الانكفاء، ونسيان الثورة ومبادئها تحت وطأة الهزيمة.
” يأتي الشعار بعد إفلاس سابقه ويختفي بعد أن يُفلس هو الآخر”
عموماً، شاع التثليث الإنساني بدلاً من الإلهي، في الثورات الاشتراكية والنظم الانقلابية في أميركا اللاتينية وبلدان الديمقراطيات، بينما الشعارات الإلهية استقرّت في دُور العبادة، وكانت عصيةً على ما يطرأ من تطوُّرات قابلة للزوال مع أيّ تغيير، فالإلهي ينحو إلى الثبات إلى حد الاستشهاد، فكان انتصاره في عصور التحوُّلات.
لم تكن الشعارات على نسق ومحتوى واحد حتى في الأزمنة الدكتاتورية النازية والفاشية والستالينية التي ركّزت على التصنيع والعمل والإخلاص وبناء المستقبل ونبذ الماضي، أو إعلاء شأنه إلى حدّ العبادة، فجرى تعليب الجماهير من خلالها، حتى أن هتلر أعلن أنَّ رسالة المرأة هي (الأطفال والكنيسة والمطبخ)، وحصر جهده الرئيسي على تفوُّق العرق الآري، لم يُخضعه للشعارات، جعله روح الأمّة الألمانية.
في بلاد العرب، كانت مصر السباقة إلى المنافسات الشعاراتية، فزعماء حزب “مصر الفتاة” في ثلاثينيات القرن الماضي أطلقوا شعار (الله والوطن والملك). أمّا مصر الثورة في عام 1925، فأعلنت شعارها (الاتحاد والنظام والعمل). ومع الميثاق في عام 1962 كان (حرية اشتراكية وحدة).
وسوف يخالفه البعثيّون بإطلاق (وحدة حرية اشتراكية) رغبةً في التشويش على الناصرية، واشتراط تنفيذها بالترتيب، لكن لم تظفر بلداننا بالوحدة، بل سيحدث الانفصال في 28 أيلول/سبتمبر 1962 ويُجهَض من قِبل دعاة الوحدة أنفسهم أعظم حلم عربي، وتُصبح الحرية هي التحرُّر من الاستعمار، مع أنه حمل عصاه ورحل، وللتعويض عن الحرية ستنتشر السجون والمعتقلات. أما الاشتراكية فلن تكون سوى نهب الشعب.
وسوف تؤدّي الهزائم التي سجّلتها الأنظمة إلى إجراء تعديلات على الشعارات التي عُرفت بالثلاثي، بتحوُّلها إلى الثنائي، كنوع من الإيجاز الأكثر دلالة، وتخفيف العبء على الأنظمة، أو الالتحاق بموضة التنحيف، قادها النظام السوري فاخترع في القرن الماضي بعد هزيمة حزيران وحرب تشرين، شعار “الصمود والتصدّي”، فأسقط به شعارات تحرير الأرض والإنسان. وفي القرن الحالي، كان الشعار اللاحق “المقاومة والممانعة” بعد إفلاس الشعار السابق، ليُفلس بدوره هو الآخر، ويصبح شعاراً هزيلاً من كلمة واحدة “منحبّك” بعدها لم تكن مصادفة، غيابه في موجة الاحتجاجات، وتعبير النظام عن مفهومه المقابل للحب، وكان بالقنابل والكيماوي والبراميل المتفجّرة.
-
المصدر :
- العربي الجديد