المتداول في شأن التاريخ بشكل عام، أنه تاريخ الأباطرة والخلفاء والملوك والرؤساء، وما حفّ بهم من أمراء وأميرات وولاة، فهو لا يرى غيرهم. أو أنه تاريخ إمبراطوريات ودول وإمارات، لا تاريخ الشعوب. الشائع أن المنتصرين يكتبون التاريخ، كأنما المهزومون تاريخهم الهزيمة، ولا تاريخ للبشر العاديين الذين صنعوا النصر، وزرعوا وحصدوا، وبنوا البيوت والحصون والقلاع، وشادوا القصور والتماثيل وأقاموا الصروح وزيّنوها بالنقوش.
يتلخّص تاريخ دولة أو منطقة ما، ببضعة حِقب وعهود وعقود وسلسلة من الملوك والرؤساء. ماذا عن الباعة والنحاتين والخبازين واللحامين والمهرجين والحواة والمحتالين والبصاصين، وساكني بيوت الطين، والأجراء والمرتزقة والفقراء، وحملة السلاح المدافعين عن المدن، وأيضاً الغزاة؟ بمعنى ما البشر. ماذا عنهم، وعن حياتهم؟ إنهم يعدون بالمليارات، بينما التاريخ يهتم ببضعة مئات من ذوي السلطان.
لئلا ينعطف بنا الحديث إلى الرواية، فهي لا تسد هذا النقص، سواء أسهمت فيه سلباً أو إيجاباً. بعض الروائيين لا يهمهم التاريخ إلا من حيث أنه مادة تحرض تخيّلاتهم وافتراضاتهم، أما الذين يتحرّون الدقة، فقد يضيفون جديداً غير معروف، لا يمكن الثقة به، وإن يمكن الاستئناس بما أوردوه، من دون الاعتماد عليه.
” أن يكتب التاريخ من تحت بالتآزر مع كتابته من فوق”
التاريخ العربي والإسلامي يشكو من هذا التقصير الفادح، فالبشر لا دور لهم إلا على أنهم حشود ترسل إلى الحروب وتساس بالقوة؛ يدرجون في التاريخ على أنهم العوام والدهماء والرعاع. المؤرخون منشغلون بسير الحكام وحنكتهم في إدارة الدولة، وقيادة الجيوش، والإشادة بحكمتهم، وربما التعرّض إلى بعض أخطائهم، أما جرائمهم فلا بدّ منها، لإحلال الأمان والاستقرار، من دونها لا دولة ولا وراثة.
لبثت تجارب البشر في العيش مختزنة في الماضي، وأهملت من المؤرخين القدماء والمحدثين، فإذا كان القدماء انشغلوا بسير الأعلام والفتوحات وتحقيب الأزمنة، فالمحدثون درسوا التاريخ، كل على حدة؛ الاقتصادي، الفكري، السياسي، العسكري… فاهتم اليسار في العقود السابقة بالصراع الطبقي، والحركات العمالية، والتنظيمات الماركسية والانشقاقات المتوالدة عنها… متلائماً مع أهواء العصر اليساري، وعندما عرّج على التاريخ وتناول مسألة “الخروج عن الدولة”، أُسبغ عليها وصفاً نضالياً، فأدلجوا الدين، فانسجم مع الصحوة الدينية.
من الغبن القول إن الدراسات التاريخية العربية والإسلامية متخلّفة، رغم ما تواجهه من صعوبات، فكلما أوغلنا في الماضي قلّت مصادر البحث، لندرة الوثائق من مخطوطات وتسجيل وقائع ومشاهدات.
إذا كان هناك من يستلهم الماضي، فالحاجة تنشأ إلى تاريخ بلا أوهام، يرمي إلى إعادة بناء حياة البشر اليومية متكاملة، لا أن تدرس منفصلة عن بعضها بعضاً. فالجزء، عندما يدرس تكون قيمته أدنى، سواء بتضخيمه أو تحجيمه.
إعادة تشكيل الماضي في جانبيه الفكري والمادي، أي بناء عالم الأمس ينبغي أن يكتب من تحت، بالتآزر مع كتابته من فوق، لنستعيد الماضي المظفر مع الجفاف والقحط، والمجاعات والغلاء… والسيف والسيّاف والنطع.
-
المصدر :
- العربي الجديد