التنوير ظاهرة أوروبية، هذا إذا شئنا إغفال الأنوار التي سبقته، سواء الأديان أو مجتمعات الإغريق والرومان، ولا ننسى الفراعنة والفرس والهنود والصينيّين، فالنور نسبيّ، بقدر ظروف العصر. كانت البشرية، رغم الحروب والمآسي والخطايا، تتّجه بالغريزة إلى النور، ولم يكن الظلام هدفاً ولا أملاً. ولقد تتالت على الشعوب والأمم دوراتٌ متعاقبة من النور والظلام.

ولا نغفل أيضاً أنّ الظلام، في بلداننا خاصة، لم يستتبّ لعقود طويلة إلّا لأنّه كان سبب بقاء المستفيدين منه، فالظلام عامل استمرار وجودهم، ما أدّى إلى أجيال عانت من الجهل والفاقة والبؤس، وكان ضدّ منطق الحياة والعالم مِن حولنا.

ظاهرة التنوير الأوروبية تُنسب إلى المدينة كفضاء يساعد على انتشار “الأنوار”. شكّلت المدن في داخلها حيّزاً عامّاً احتوى على دوائر، إحداها “المدرسة” كمثال واضح، ما أسّس للقراءة والكتابة… إنّه التعليم، حيث اعتُبرت الأمّية عدوّاً للمعرفة، تُكافَح بالعلم والكتب والمعاهد.

أخذت المعرفة أبعادها في الجامعات والمطابع والترجمة، وتجارة الكتب والتغلّب على انتقالها رغم الحواجز الجمركية، وظهور الكُتّاب والنقّاد الملمّين بمصادر المعرفة الجديدة والقديمة، الأمر الذي ساعدت عليه شبكة مبادلات واسعة، احتلّت فيها المؤسّسات دوراً جوهرياً. إضافة إلى قيام ما يمكن أن نطلق عليه “جمهورية الآداب”، جمهورية مستقلّة عن المَلكيّات والإمارات والإقطاعيات، وفي ما بعد عن الإمبراطوريات، إلى أن أخذتها تحت جناحها الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية، فأصبح النور مجلبةً للشكوك، بات موجَّهاً، يعمل تحت الرقابة والدعايات الأيديولوجية. لكنّ النور دائماً ما استطاع أن يخترق الأسلاك الشائكة والجدران الحديدية والحكومات الشمولية.

كثيرون في بلداننا ينكرون النور ويدافعون عن الظلام

ما الذي ساعد على انتشار التنوير؟ إنها التجمّعات الحرّة، وكانت أشبه بالمنتديات، تدور فيها المناقشات والجدل، وكانت على رأسها تجمّعات العلماء والأدباء والفلاسفة، وكذلك طبقات المجتمع من المحامين والقضاة والأطبّاء، ومن أرستقراطيّين وبعض رجال الكهنوت. وكانت مناقشاتهم فاعلة في تنشيط الصحافة والجدل في الجمعيات، ومنها “روابط البنائيين الأحرار” (الماسونية). وعلينا أيضاً ألّا نستهين برجال الكهنوت والباعة الجوّالين وقرّاء الصحف، فالأفكار التنويرية بلغت الأرياف عن طريق عربات السفر والفنادق ومحطّات البريد، فقرأ المزارعون والخدَم الصحفَ والكتب.

لو أنّ التنوير انعزل عن الناس، لأصبح أرستقراطياً، لإرضاء تطلُّعات نخبة من المجتمع، لكنّه كان مشاعاً، وجهد في أن يشمل الناس جميعاً، خاصّة الطبقات الشعبية والأوساط العمّالية في المدن، والأوساط الفلّاحية، فأخذ الناس العاديون بأفكار التنويريّين وقيَمهم وتبنّوها، ما أدّى إلى ظهور أنماط جديدة من آداب المعاملات، وغيّرَ طبائع الحياة المادية، ومنحها أشكالاً مختلفة في علاقات الناس بعضهم البعض. ظهر أثر ذلك في النموّ الاقتصادي، وإذا كان من نتائجه الغلاء، فإنّ زيادة المداخيل عوّضت ارتفاع الأسعار، وحفّزت الاستهلاك، سواء في الطعام أو الملابس أو المنازل.

أصابت المتغيّرات وجوه الحياة المادية اليومية، وإنْ كان بالمصادفة، بتزامن عصر التنوير مع دخول نور المصابيح إلى المنازل، وشاعت شبكات الإنارة الليلية في المنازل والساحات العامّة، فلم تعد تقتصر القراءة على وضح النهار، أو على لهب الشمعة والمصابيح الزيتية: أصبحت في المتناول ليلاً. وشهد هذا العصر نفسه، في تاريخ أوروبا، طفرة من النموّ السكّاني غيرَ مسبوقة، فتكاثرت الزيجات والولادات وتزايدت معدّلات الأعمار، وتنوّعت مظاهر الحياة، وكان أجلى مظاهرها الأملُ الدائم في العمل على التغيير نحو آفاق بدا من الممكن توقُّعها، فكان التفاؤل في الحصول على السعادة.

هل كان هذا هو العصر السعيد؟ نعم، بالمقارنة مع ما سبقه.

إذا كنّا في مقالاتنا نكثر الحديث عن النور والظلام، فلأنّ كثيرين في بلداننا ينكرون النور، ويدافعون عن العيش تحت ظلّ حكومات مهمّتها تصنيع الظلام الدامس. وما نعتقده، هو أنّ مهمة الكُتّاب، أو مَن يُدعون بالمثقّفين، تتمثّل في العمل على جلاء حقيقة الظلام، وعدم اختلاق سرديات تتوافق مع ما تصبو إليه أنظمة تسعى إلى تأبيده.