تحتل الرواية مكانةً مرموقةً، ليس في الأدب وحده، بل وفي الحياة. قراؤها في تزايد مستمر، لا يقتصر على العالم العربي الذي أبدى اهتماماً كبيراً بها في العقد الأخير، بل وفي الغرب، حيث صمدت الرواية، على الرغم من الأزمات الثلاث التي مرت بها. الأولى مع المسرح الذي نشأ مع الإغريق، ببدايات قوية واستمرارية شعبية لامعة طوال القرون اللاحقة، اضطر إلى أن يترك للرواية هامشاً ضئيلاً جداً، تمارس فيه نشاطها، تمكنت من توسيعه مع الزمن، واستطاعت الوقوف، جنباً إلى جنب، مع ازدهار المسرح في القرنين الأخيرين. الثانية في أوائل القرن العشرين وكانت مع السينما، والأزمة الثالثة في منتصف القرن مع التلفزيون. نجاة الرواية من منافسة السينما والتلفزيون لم تكن سهلة، فالسينما، بسحرها وفتنة نجومها، شكلت منافساً خطيراً للرواية، والجهد الذي يبذله القارئ، ليس مطلوباً من المتفرج المسترخي على مقعد وثير، لا يبذل أي جهد، غير أن الانسجام حلّ بينهما، فالسينما ومثلها التلفزيون، استمدا الكثير من موضوعاتهما المثيرة من الرواية.
وعموماً، كانت الرواية، وقبلها المسرح، سباقين إلى الجريمة والعنف والجنس والسحر والرعب والحروب… ما يؤكد أنه في البدء كانت الكلمة. لا يتصور بشر كثيرون الحياة من غير الرواية، مثلما غيرهم لا يتصورونها من دون سينما وموسيقا ومسرح. عموماً لا حياة بلا فنون، الحياة قاحلة من دونها. الفن يصنعه البشر، وهو بالنسبة إلى كثيرين محور حياتهم، وربما جدواها. وهناك من الأدباء من تصور الجنة مكتبة ضخمة تمتلئ بالكتب.
لا تغني السينما عن الرواية، قدرة الرواية على التعبير تتجاوز السينما، على الرغم من حيوية الصورة وبهرجاتها وجمالياتها. بوسع الكلمة التعبير عن أعماق النفس الإنسانية، ورصد أدق التحولات والمشاعر والخلجات، بينما الصورة، مهما بلغت قيمتها التعبيرية، حدودها الهيئة الخارجية، هذا ليس تشكيكاً بقدرات السينما الخارقة، لكن هناك حدوداً تقف أمامها لا تستطيع تخطيها. ولقد تعلمت الكلام من الكتابة والقول، لا من الصورة.
السينما لم تحافظ على صمتها، وعندما تكلمت، لم تتوقف عن الكلام. لم يطل الوقت على الرواية، حتى أحس عشاقها بأن الحاجة إليها، ليس للمتعة والترويح عن النفس فقط. الرواية تطلعنا على العالم وحيوات الآخرين، وتدفع الإنسان إلى التفكير في نفسه ومجتمعه، على الرغم من قصورها عن التأثير فينا وفي العالم. وإن كانت تجعلنا أكثر تفهماً للحياة والبشر. غير أن روائيين طموحين يعتقدون أن لدى الرواية القدرة على تغيير العالم، وفي هذا تفاؤل مبالغ به، فهي لم تفلح، على الرغم من إنجازاتها الرائعة في هجاء الحرب، وفضح انتهاكاتها، أن تمنع حرباً محدودة، ولا اشتباكات على الحدود، حتى تؤثر في الدول المتحاربة، على الرغم من روايات “الحرب والسلام” لتولستوي، و”كل شيء هادئ في الميدان الغربي” لريمارك، و “وداعاً للسلاح” لهيمنغواي.. وغيرهم.
المؤسف أن البشرية لا تستطيع العيش، ولا التقدم، بلا الحروب، فهي تعيد ترتيب توازنات الجشع الذي يحكم عالماً يتقاسمه أصحاب القوة. يبدو اليوم أنه من الرفاهية الحديث عن الرواية أو الموسيقا، إذ الحروب لا تكف عن اجتياح العالم بالجملة، وتضيف جرائم لا تني تتكرر وتتكدس من المآسي البشرية، ما يعجز الخيال عن تصوره، من دون أن تلقى من العالم أذناً صاغية. ما الذي تفعله الرواية لسورية الرازحة تحت أهوال حرب مجنونة، بينما السوريون يسطرون رواياتهم بالدموع؟ لم تشهد المنطقة كلها في تاريخها الطويل هذا الحجم من الدمار، ولا هذا الكم من الموت، ولا وصلت إلى هذه الذروة في الهمجية، ولا هذا الانحطاط في الوحشية.
لا تفي الكلمة، ولا الرواية، التعبير عن بلاغة مأساة السوريين، حتى أن البلاغة المشتقة من الأدب، لا من الفظائع، تبدو سخيفة، إزاء محنتهم الغارقة في الدماء، وارتقاء الموت تحت التعذيب، إلى أن يكون هو السائد، حتى أصبح القتل العادي من أنواع القتل الرحيم.