غالباً ما يأخذني شغفي الأدبي لحلم يسيطر علي منذ زمن، بإنجاز عمل روائي يشبه ما أنتجه الروائي السوري فواز حداد في رواياته موزاييك دمشق 39، وتياترو 1949، ففي خلفية حبكة الرواية والأحداث التي تمر على أبطالها، كانت الأحداث السياسية تُسرد بسلالة وفن، وتؤثر في تطور شخوص الكاتب، الذي جعلهم شخصيات متأثرة بالأحداث ومؤثرة أحياناً، فكانت الرواية نافذة لنا على ما عاشته دمشق خصوصاً، وسوريا عموماً، في ذلك الوقت، أو ثلاثية نجيب محفوظ، مثلاً، التي تناولت حياة أسرة مصرية عادية وأحاطتها بالتاريخ السياسي لمصر وحقبة الاستقلال.
لا أستطيع أن أسمي فواز حداد (مع حفظ الألقاب) مؤرخاً، ولكنه في زاوية معينة كان أهم من ذلك، فغالباً ما تنقل الرواية روح الفترة وأحداثها، بأمانة تفوق أمانة المؤرخ في تسجيله للوقائع، فكلنا يعلم أنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، أو المسيطرون.
فلو أردت اليوم أن أحقق مشروعي المؤجل منذ زمن برواية فيها عبق دمشق، بحاراتها التي أحب، وذكريات طفولةٍ وصبا، ماذا سأكتب في الخلفية السياسية لشخوصي؟ سأقول بأنّ أبطالي ولدوا في عهد التصحيح، وشبوا في عهد العرين، ونضجوا في عهد الوريث؟ فأي تاريخ سياسي سأنقل، وكيف سأنقل ما يجول في خواطرهم من منولوج داخلي أو بوح، وكل من عرفت (من أبطال روايتي المتخيلة) كانوا يخشون البوح، يخشون أن يأكل المعتقل شبابهم بسبب كلمة، أو تقرير كيدي على خلفية رأي مخالف للسلطة، فكيف سيكون بوحهم والخوف يكبلهم حتى في الأحلام؟.
البوح العاطفي محرم ومكروه ومدان.. البوح الاجتماعي يدخل في نطاق الثرثرة والنميمة ومعيب.. بوح الأوضاع الاقتصادية والحياتية الصعبة، فالشكوى لغير الله مذلة، بوح الكبت، والعلاقات، والحب، فهو بوح فاضح وخادش للحياء العام.. البوح الديني، اللهم أجرنا وعافينا، أما البوح السياسي فهو قطعاً من المحرمات لأنّ الحيطان لها آذان، والحيط الحيط يا ربي السترة.
وإن تجاوزت المرحلة لأكتب عن جمال انطلاق الثورة، وروحها، ومشاعرها الأولى بسعادة لحظاتها فستجرني كلماتي إلى الموت.. الشهداء تحت التعذيب.. التهجير.. الخراب.. الجوع.. الأطفال الموتى والمفقودين ومجهولي المصير في رحلات اللجوء.. ستجرّني كلماني إلى السجون ومخيمات اللجوء.
لن أكتب عن هذا كله، فلم يعد بإمكاني اجترار الألم مراراً وتكراراً وإعادة أحاسيس الموت في داخلي مع كتابتي لكل مشهد، ماذا سأكتب؟ هل سأكتب كيف خطفت الثورة، وكيف تشرذم الثوار، وكيف تشتت السوري ن في كل بقاع الأرض؟.
بتّ أحسد من ولد في أربعينات القرن الماضي، وأغبطه عما شهده من حياة صاخبة بالأحداث، وأنظر بعين الغيرة لأجيال لم تولد بعد، فأتمنى لو كان الخيار بيدي، لأولد بعد ألف عام أو أكثر، وربما في كوكب آخر، في عالم لا يعرف الحروب، ولا القهر، ولا الجوع، في عالم لا أحزاب فيه ولا دول، عالم محكوم بالحب، بالحب فقط.
يولد أطفال اليوم بين أكوام الجثث المكدّسة في كل مكان، الحدائق مقابر، ومنصفات الطرقات مقابر، وبرادات المشافي مقابر، وفروع التحقيق الملاصقة لبيوت الأبرياء مقابر، وغرف الولادة مقابر.
لم يعد البلد بلداً ولا وطناً، صار نعشاً لموت مؤجل، يعيش فيها الأموات الأحياء بانتظار موتهم الأخير، فالسوري ناجٍ بالصدفة، فماذا ستكتبين أيتها الأنا الحالمة برواية واقعية؟
لم أعد في الفترة الأخيرة قادرة على متابعة أخبار الموت القادمة من سوريا، حتى لو بات الموت هناك اعتيادياً، بل وعادياً أحياناً، ولكنني ما زلت لم أتجاوز إحساسي به كفاجعة.
في طفولتي واجهت الموت مبكراً، فلم أعرف أبي أبداً، لم تمهلني حرب تشرين التحريرية -كما أسموها- أن أذكر وجهه، فقدته قبل أن أعرف كيف أركّب الكلمات، فظلّت كلمة (بابا) عندي عصيّة على النطق، وظلّ الموت يحمل عندي صفة الخيبة الأولى، والمصيبة الأكبر، توالى رحيل الأحباء، وتوالى بعده موت السوريين، وجاءت حرب لم تستثنِ بيتاً من فجيعة، وبقيتُ في ذات الخانة، لا أتقبّل أخبار الموت ولا أتأقلم معها أبداً.
من نافذتي الوحيدة على البلاد -مواقع التواصل الاجتماعي- تطل نعوات الموت تباعاً، نعوة، تليها أخرى، وتأخذ أصابعي بطباعة كلمات المواساة دون تفكير، وكأنها حفظت وحدها ماذا ستكتب، وكلنا كذلك، لنشعر ولو كذباً بأننا نقف بجانب أحباء ما زالوا يعيشون هناك تحت رحمة الموت المجاني.
هؤلاء الأنبياء الذين ذاقوا كل أنواع العذاب وبقوا في بيوتهم لم يبرحوها، منهم من فقد كل شيء خلال سنوات الحرب، ومنهم من عايش أياماً لم يتخيلها، ومنهم من فجعته الكارثة السورية بأحباء.
فإن استطعت يوماً، أن أكتب روايتي التي أريد، لن أكتب عن كل ما سبق، ولا أريدها أن تكون رواية واقعية، أريد أن أهرب بها وبقارئها إلى عالم بلا وجع، سأسميها بلاد المغفرة والحب، وستكون خلفيتها السياسية في سوريا أخرى، سوريا التي أحلم بها، بلا حرب، بلا جوع أو ألم، سأجعله وطناً مقابره حدائق وليس العكس، وكل أمواته قضوا بجرعات زائدة من الحب، بجرعات زائدة من الفرح والحياة وعن عمر ناهز ما تمنّوه.