تفخر الأمم بتقاليدها، ولا تسخر منها، على عكس ما اعتدنا أن نتصوّر، فالتقاليد هي الإرث الذي خلّفه الأجداد، تتمسّك به الحضارات دلالةً على عراقتها، فتحتفظ بأوابدها، وتملأ المتاحف بآثارها التاريخية والفنّية، وتحافظ على طرز العمارة. في بريطانيا تمتّ القصور إلى العصور؛ الفيكتوري، والإدواردي، والإليزابيثي، وما قبلها من عصور سلفت. ما زالت العائلات المالكة الأوروبية، رغم فضائحها التي تُطنطن بها الصحافة الصفراء، تتقيّد بالتقاليد المرعية، لا سيما قواعد السلوك.
رغم الحرص، تخضع التقاليد للمتغيّرات كما كلّ شيء في عالمنا، يتكفّل بها ما يطرأ من ظروف تاريخية وسياسية ودينية على المجتمعات في مراحل الانتقالات من عهد إلى عهد، كما من الزمن الإقطاعي إلى الإمبراطوري فالملكي والجمهوري، ولا نزعم تطوّر التقاليد، وإنما قدرتها على البقاء بتحقيق الانسجام مع الأجيال الجديدة.
في منتصف القرن الماضي وحتى الآن، يلاحَظ عدم الاطمئنان إلى استقرار التقاليد في العالم وتسارُع زعزعتها، اخترقتها الثورات بمختلف أنواعها السياسية والليبرالية والجنسية، إلى حدّ من الممكن تشبيهها بالانقلابات العسكرية. قد تكون الشعوب محظوظة، فتذهب بها إلى الديمقراطية، أو سيّئة الحظ فتذهب بها إلى الطغيان، فالتاريخ عرضة للتقلّبات، وما نشوء مؤسّسات حديثة، واختفاء مؤسّسات قديمة، إلّا انعكاس لها.
حياةٌ عامّة وخاصّة لكلّ منهما طرائق سلوك مختلفة
تميّزت حياة الناس قبل الثورة الصناعية، بعدم توافُر الخصوصية، سواء في الطبقات العليا أو الدنيا، ليس من باب الانفتاح على بعضهم بعضاً، فمثلاً لم يكن هناك ما يُدعى بالخلوة ضمن الأسرة الكبيرة أو الصغيرة، كما تفرضها اليوم طبيعة حياة المرأة والرجل، بالعيش في مسكنهما وإغلاق الباب وراءهما.
أدّى ذلك إلى نشوء تقاليد عقلانية يُجمع عليها المجتمع، يصبح الفرد بموجبها مواطناً صالحاً، وكانت في تربيته وتقبّله لقواعد سلوك تشمله مع غيره، أدّت إلى اعتماد مرحلتين؛ الأُولى في الأُسرة، يرى فيها الطفلُ العالمَ متجسّداً بالأم والأب، ما يمنحه تصوّراً نموذجياً وادعاً عن العالم، ثمّ في المدرسة والجامعة، يمثّل فيهما الأساتذة الطريق الواجب اتباعه والانخراط فيه، فيعملون على تعريفه، بممنوعات المجتمع وتراتبية السلطة، على أمل الانسجام معها، والخضوع لها، بالاقتداء بها، إن لم يتمرّد عليها، وكان نادراً، يتقولب في داخلها اجتماعياً ودينياً واخلاقياً وسياسياً، فينضوي تحت مفاهيم يأخذ بها، وعادات يحذو حذوها، تُعتبر مع الوقت قواعد ملزمة له، متعلّقة بكيفية التعامل مع الآخرين، وعقد الصداقات والعداوات، والزواج والموت، بل وتناول الطعام واستقبال الضيوف، وتسلّق السلم الوظيفي.
فالفرد لم يعد يمثّل أُسرته فقط، يصبح ممثّلاً لوظيفته، وطبقته، وبلده، وقد يمثّل أيّ شيء عدا نفسه، وإذا حاول كسر هذا القالب والخروج عنه، فسوف يماثل خروجُه خروجَ دون كيخوته إلى العالم محكوماً بأفكار ذاتية، لها نصيب كبير من الخيال، عن عالم يريد تغييره.
أصبحت حياة الفرد في الواقع، تدور في دائرتين، عامّة وخاصّة، ولكلّ منهما طرائق سلوك مباينة لطرائق الأُخرى. ففي حياته العامّة يخضع لمتطلّبات العمل والالتزام بالقوانين، من القانون الضريبي إلى قوانين السير، ترافقه وترهقه على الدوام التعليمات والأوامر والإرشادات، إضافة إلى أعباء العمل، ما يشكّل ضغطاً ذهنياً يتعرّض له على مدار الساعة، إلى الحدّ الذي تنشأ لديه الحاجة إلى الانكفاء في دائرته الصغرى، يضطرّه إلى إغلاق بابه في وجه مجتمعه وطبقته وحكومته ومهنته، وكلّ أنواع الالتزام، ولا يسمح لأحد، أو جماعة أو هيئة، بالتغلغل في حياته الخاصّة، يعيشها بحرية مطلقة، مطلِقاً العنان حتى لنوازعه المستهجَنة والغريبة.
الفرد لم يعد يمثّل أُسرته فقط، صار ممثّلاً لوظيفته، وطبقته، وبلده
لم تعُد الحرية تتمثّل إلّا في أوقات الفراغ، حيث لا يسود تشريع ولا قاعدة. يتحرّر فيها من قواعد السلوك التي تصبح عبئاً منغّصاً عليه، له الحق بالتخلّص منها بعد أسبوع من العمل الشاق، يقضيها في ممارسة هواياته، والتمتّع بالطبيعة، وما يرغب فيه ويتوق إليه، غير أنّ أكثر ما يستهلك أوقات الفراغ هو عالم الأخبار والترفيه في القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، ينطلق الفرد في عوالمها، ويتشدّد في خصوصياته إلى حدّ لا يعود يشبه غيره، يخفي فيها عالمه الفردي داخل الجدران، والأحرى داخل عالم أصبح افتراضياً، وإن جمعته مع غيره عادات وتقاليد في الظاهر فقط. فالافتراضي يصبح الحقيقي، والحقيقي يصبح الافتراضي.
ولئلا نذهب إلى أبعد، فلنقُل هذه الفكرة يلزمها المزيد من التعمّق، وإذا كنّا قد تطرّقنا إليها، فربما لأنّنا نتلمّسها بغموض.
-
المصدر :
- العربي الجديد