هل ثمّة من جديد في القضية الفلسطينية؟ نعم، الكثير من الأحداث، لم تتقادم، أغلبها جديد وساخن؛ عملية “طوفان الأقصى” المُذهلة، وانكسار الأمان الإسرائيلي، والقصف الوحشي على غزة، واصطفاف الغرب إلى جانب “إسرائيل”، الذي يُمكن وصفه بشكل أكثر دقة، هرولة الدول الأوروبية المذعورة لإعلان تأييدها لـ”حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وكأن المصاب مصابها، بينما لم يكن سوى امتثال لدعوة بايدن في إعطاء الضوء الأخضر بالردّ، بما لا يقلّ عن عملية إبادة.

أظهر التأييد الغربي منذ اللحظات الأولى، بعدما استفاقت أوروبا من الصدمة، الدعم المُطلَق لـ”إسرائيل”، بينما تماهت أميركا معها، عبر إطلاق سلسلة من الأكاذيب كي تُساعدها على استعادة توازنها بإيقاع أكبر قدر من القتل، ومحاولة تبرئتها من قصف “المستشفى المعمداني”.

كذلك التشكيك بعدد الضحايا الفلسطينيين الذين زادت أعدادهم من المدنيّين عن ثمانية آلاف، وإنكار أن تكون البوارج الأميركية التي حلّت في المنطقة لها علاقة بالحرب، وإنما منع خطر “داعش” من العودة. وهي الأكذوبة الكبرى التي تلقّفها نتانياهو وضباطه الفاشيون وبالغوا في استهلاكها إلى حدّ المساواة بينهما، تحت شعار “حماس هي تنظيم الدولة”. وبما أن أوروبا استساغت لعب دور التابع، تاجرت بالشعار نفسه، فأكّد الرئيس الفرنسي ماكرون الاستعداد للانضمام للتحالف الجديد ضدّ حماس على أنها تنظيم الدولة، وزاد وزير الدفاع الأميركي ووصف ما فعلته حماس بأنه أسوأ ممّا فعله تنظيم الدولة. ولا عجب، إنه موسم الأكاذيب.

منح بايدن الضوء الأخضر ليس للحرب فقط، وإنما لارتكاب المجازر على مدار الساعة

منح بايدن الضوء الأخضر ليس للحرب فقط، وإنما لارتكاب المجازر على مدار الساعة، بذريعة أنّ حماس، تمثّل الفرع الفلسطيني لداعش العدمية، لا تهتمّ بحياة المدنيّين ولا حياة الأطفال والنساء، حماس تنشد الموت لا الحياة. وباتت الحملة على غزة انتقامية مسعورة بلا رحمة، ما أعفاهم من أي حسٍّ أخلاقي، وحسب وزير الحرب الإسرائيلي لم يعد المدنيّون الفلسطينيون إلّا “حيوانات بشرية”.

ليست حماس منظمة عدمية، ورغم الخلاف حولها، يجب العودة إلى القضية الفلسطينية، فهي كانت وما زالت قضية تحرّر وطني لشعب يقاوم الاحتلال، ولو أنّ أعداءها اعتبروها حركة إرهابية لمجرّد أنها ذات طابع إسلامي، ما يعزّز مهزلة الفوبيا من الإسلام. إنها كأغلب حركات التحرُّر تُناضل بجميع الوسائل، بالسياسة والسلاح؛ لم تفلح السياسة، فكان لا بدّ من السلاح، ليست حماس منظّمة إرهابية ولا مهووسة بالموت، بل بالحياة الكريمة، وتُدافع عن هذا الحقّ إلى حدّ التضحية بالروح في سبيل التخلّص من الاحتلال، دائماً ما كانت الحرّية مُكلفة في زمن الاستعمار، خاصة الاستيطاني.

من هنا يُمكن فهم الإعلام الغربي الذي وجدها حجّة للسير على الإيقاع الأميركي الإسرائيلي، من دون التقيّد بأخلاقيات المهنة، بتلفيق المعلومات، وبإهمال المصادر الموثوقة، والافتقاد إلى النزاهة والمصداقية، وتلقّي تعليمات حكوماتهم بعدم التركيز على الضحايا المدنيّين وقتل الأطفال في غزة، وكأنها حرب بلا ضحايا سوى مستوطني غزة.

ليست الإنسانية كذبة إنها حقيقة، مهما حاول الغرب التلاعب بها باستعمال السياسة للمراوغة وقلب الحقائق

وفي برامج “التوك شو”، أصبح السؤال الأول للمتعاطفين والمدافعين عن الحقوق الفلسطينية: هل تدين عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؟ يريدون الحصول منهم على اعتراف يدين حماس، كذريعة تبيح للإسرائيليّين التدمير والقتل العشوائيَّين، واعتبار المدنيِّين هدفاً مشروعاً للانتقام الوحشي، في دفاع “إسرائيل” عن النفس، دونما النظر إلى الضحايا الفلسطينيين من الأطفال والنساء.

الحملة الكثيفة ضدّ غزة على جميع المستويات، أحبط زخمها الحملة المُعاكسة للشعوب في مختلف بلدان العالم، ضمّت مئات الآلاف من المناصرين للحرّيات، ما أعاد فلسطين إلى واجهة القضايا العالمية، وأكّد استحالة استمرار “المجتمع الدولي” في تجاهل حقوق الفلسطينيّين القومية والسياسية والإنسانية المشروعة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ما دامت المقاومة مستمرّة. أما وقوف الشعوب العربية مع فلسطين ففرض نفسه بشكل واضح.

وضع الفلسطينيون أمام الرأي العام الحقيقة الوحيدة التي يعملون عليها، لا للاحتلال والعنصرية والقمع والتمييز والأبارتهايد، مهما مرّ من الزمن، على المدى الطويل الزمن يعمل لصالحهم، والتفوّق العسكري الإسرائيلي لن يحسم الصراع، ولا الالتفاف على الفلسطينيين، والتطبيع مع الحكومات العربية، أو تمرير الاتفاقيات السرية والعلنية، على أنها الأمر الواقع.

ليست الإنسانية كذبة إنها حقيقة، مهما حاول الغرب التلاعب بها باستعمال السياسة للمراوغة وقلب الحقائق، إلى حد الاعتقاد بأن العدالة عدالتهم وحدهم، وأنهم نجحوا في دفع الفلسطينيين إلى اليأس المُطلق.

بيد أنهم لم يدركوا، أن العدالة ليست احتكاراً غربياً، كما لم يدركوا ربما حتى الآن، أن عملية حماس يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، كانت إحدى نتائج اليأس من عدالتهم، حتى اليأس كان سلاحاً. أما العدالة فإنسانية، تلك التي لن تعرف فلسطين غيرها.